وكذلك لما ورد عن أصحاب النبي A ومن بعدهم من الأئمة مثل ما روى أن عمرو بن العاص أصبح جنبا في غزوة في يوم بارد فتيمم وقال : الله تعالى يقول : ( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ) مع أن مورد الآية أصله في النهى عن أن يقتل الناس بعضهم بعضا . ومن ذلك أن عمر لما فتحت العراق وسأله جيش الفتح قسمة أرض السواد بينهم قال : " إن قسمتها بينكم لم يجد المسلمون الذين يأتون بعدكم من البلاد المفتوحة مثل ما وجدتم فأرى أن أجعلها خراجا على أهل الأرض يقسم على المسلمين كل موسم " فإن الله يقول : ( والذين جاءوا من بعدهم ) وهذه الآية نزلت في فيء قريظة والنضير والمراد بالذين جاءوا من بعد المذكورين هم المسلمون الذين أسلموا بعد الفتح المذكور . وكذلك استنباط عمر ابتداء التاريخ بيوم الهجرة من قوله تعالى ( لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أ تقوم فيه ) فإن المعنى الأصلي أنه أسس من أول أيام تأسيسه واللفظ صالح لأن يحمل على أنه أسس من أول يوم من الأيام أي أحق الأيام أن يكون أول أيام الإسلام فتكون الأولية نسبية . وقد استدل فقهاؤنا على مشروعية الجعالة ومشروعية الكفالة في الإسلام بقوله تعالى في قصة يوسف ( ولمن جاء حمل بعير وأنا به زعيم ) كما تقدم في المقدمة الثالثة مع أنه حكاية قصة مضت في أمة خلت ليست في سياق تقرير ولا إنكار ولا هي من شريعة سماوية إلا أن القرآن ذكرها ولم يعقبها بإنكار . ومن هذا القبيل استدلال الشافعي على حجية الإجماع وتحريم خرقه بقوله تعالى ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ) مع أن سياق الآية في أحوال المشركين فالمراد من الآية مشاقة خاصة واتباع غير سبيل خاص ولكن الشافعي جعل حجية الإجماع من كمال الآية .
وإن القراءات المتواترة إذا اختلفت في قراءة ألفاظ القرآن اختلافا يفضي إلى اختلاف المعاني لمما يرجع إلى هذا الأصل .
ثم إن معاني التركيب المحتمل معنيين فصاعدا قد يكون بينهما العموم والخصوص فهذا النوع لا تردد في حمل التركيب على جميع ما يحتمله ما لم يكن عن بعض تلك المحامل صارف لفظي أو معنوي مثل حمل الجهاد في قوله تعالى ( ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه ) في سورة العنكبوت على معني مجاهدة النفس في إقامة شرائع الإسلام ومقاتلة الأعداء في الذب عن حوزة الإسلام . وقد يكون بينها التغاير بحيث يكون تعيين التركيب للبعض منافيا لتعيينه للآخر بحسب إرادة المتكلم عرفا ولكن صلوحية التركيب لها على البدلية مع عدم ما يعين إرادة أحدها تحمل السامع على الأخذ بالجميع إيفاء بما عسى أن يكون مراد المتكلم فالحمل على الجميع نظير ما قاله أهل الأصول في حمل المشترك على معانيه احتياطا . وقد يكون ثاني المعنيين متولدا من المعنى الأول وهذا لا شبهة في الحمل عليه لأنه من مستتبعات التراكيب مثل الكناية والتعريض والتهكم مع معانيها الصريحة ومن هذا القبيل ما في صحيح البخاري عن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال : لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ؟ فقال عمر : إنه من حيث علمتم فدعاه ذات يوم فأدخله معهم قال : فما رئيت أنه دعاني إلا ليريهم قال : ما تقولون في قول الله تعالى ( إذا جاء نصر الله والفتح ؟ ) فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا وسكت بعضهم فلم يقل شيئا فقال لي : أكذلك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت : لا فقال : فما تقول ؟ قلت : هو أجل رسول الله أعلمه له قال إذا جاء نصر الله والفتح وذلك علامة أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تقول .
وإنك لتمر بالآية الواحدة فتتأملها وتتدبرها فتنهال عليك معان كثيرة يسمح بها التركيب على اختلاف الاعتبارات في أساليب الاستعمال العربي . وقد تتكاثر عليك فلا تك من كثرتها في حصر ولا تجعل الحمل على بعضها منافيا للحمل على البعض الآخر إن كان التركيب سمحا بذلك .
A E