والفراش : فرخ الجراد حين يخرج من بيضه من الأرض يركب بعضه بعضا وهو ما في قوله تعالى ( يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر ) . وقد يطلق الفراش على ما يطير من الحشرات ويتساقط على النار ليلا وهو إطلاق آخر لا يناسب تفسير لفظ الآية هنا به .
والمبثوث : المتفرق على وجه الأرض .
A E وجملة ( وتكون الجبال كالعهن المنفوش ) معترضة بين جملة ( يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ) وجملة ( فأما من ثقلت موازينه ) الخ . وهو إدماج لزيادة التهويل .
ووجه الشبه كثرة الاكتظاظ على أرض المحشر .
والعهن : الصوف وقيل : يختص بالمصبوغ الأحمر أو ذي الألوان كما في قول زهير : .
كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم لأن الجبال مختلفة الألوان بحجارتها ونبتها قال تعالى ( ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها ) .
والمنفوش : المفرق بعض أجزاءه عن بعض ليغزل أو تحشى به الحشايا ووجه الشبه تفرق الأجزاء لأن الجبال تندك بالزلازل ونحوها فتتفرق أجزاء .
وإعادة كلمة ( تكون ) مع حرف العطف للإشارة إلى اختلاف الكونين فإن أولهما كون إيجاد والثاني كون اضمحلال وكلاهما علامة على زوال عالم وظهور عالم آخر .
وتقدم قوله تعالى ( وتكون الجبال كالعهن ) في سورة المعارج .
( فأما من ثقلت موازينه [ 6 ] فهو في عيشة راضية [ 7 ] وأما من خفت موازينه [ 8 ] فأمه هاوية [ 9 ] وما أدريك ما هيه [ 10 ] نار حامية [ 11 ] ) تفصيل لما في قوله ( يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ) من إجمال حال الناس حينئذ فذلك هو المقصود بذكر اسم الناس الشامل لأهل السعادة وأهل الشقاء فلذلك كان تفصيله بحالين : حال حسن وحال فضيع .
وثقل الموازين كناية عن كونه بمحل الرضا من الله تعالى لكثرة حسناته لأن ثقل الميزان يستلزم ثقل الموزون وإنما توزن الأشياء المرغوب في اقتناءها وقد شاع عند العرب الكناية عن الفضل والشرف وأصالة الرأي بالوزن ونحوه وبضد ذلك يقولون : فلان لا يقام له وزن قال تعالى ( فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) وقال النابغة : .
" وميزانه في سورة المجد ماتع أي راجح وهذا متبادر في العربية فلذلك لم يصرح في اية بذكر ما يثقل الموازين لظهور أنه العمل الصالح .
وقد ورد ذكر الميزان للأعمال يوم القيامة كثيرا في القرآن قال ابن العربي في العواصم : لم يرد حديث صحيح في الميزان . والمقصود عدم فوات شيء من الأعمال والله قادر على أن يجعل ذلك يوم القيامة بآلة أو بعمل الملائكة أو نحو ذلك .
والعيشة : اسم مصدر العيش كالخيفة اسم للخوف أي في حياة .
ووصف الحياة ب ( راضية ) مجاز عقلي لأن الراضي صاحبها راض بها فوصفت به العيشة لأنها سبب الرضى أو زمان الرضى .
وقوله ( فأمه هاوية ) إخبار عنه بالشقاء وسوء الحال فالأم هنا يجوز أن تكون مستعملة في حقيقتها . وهاوية : هالكة والكلام تمثيل لحال من خفت موازينه يومئذ بحال الهالك في الدنيا لأن العرب يكنون عن حال المرء بحال أمه في الخير والشر لشدة محبتها ابنها فهي أشد سرورا بسروره وأشد حزنا بما يحزنه . صلى أعرابي وراء إمام فقرأ الإمام ( واتخذ الله إبراهيم خليلا ) فقال الأعرابي : " لقد قرت عين أم إبراهيم " ومنه قول ابن زيابة حين تهدده الحارث بن همام الشيباني : .
يا لهف زيابة للحارث الصا ... بح فالغانم فالآيب ويقول في الشر : هوت أمه أي أصابه ما تهلك به أمه وهذا كقولهم : ثكلته أمه في الدعاء ومنه ما يستعمل في التعجب وأصله الدعاء كقول كعب ابن سعد الغنوي في رثاء أخيه أبي المغوار : .
هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا ... وماذا يرد الليل حين يؤوب أي ماذا يبعث الصبح منه غاديا وما يرد الليل حين يؤوب غانما وحذف منه في الموضعين اعتمادا على قرينة رفع الصبح والليل وذكر : غاديا ويؤوب و ( من ) المقدرة تجريدية فالكلام عل التجريد مثل : لقيت منه أسدا .
فاستعمل المركب الذي يقال عند حال الهلاك وسوء المصير في الحال المشبهة بحال الهلاك ورمز إلى التشبيه بذلك المركب كما تضرب الأمثال السائرة .
ويجوز أن يكون ( أمه ) مستعارا لمقره ومآله لأنه يأوي أليه كما يأوي الطفل إلى أمه