وهذا ما أشار إليه قوله تعالى ( وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد ) فلذلك كان الاستغراق عرفيا أو عاما مخصوصا فالإنسان لا يخلو من أحوال مآلها إلى كفران النعمة بالقول والقصد أو بالفعل والغفلة فالإشراك كنود والعصيان كنود وقلة ملاحظة صرف النعمة فيما أعطيت لأجله كنود وهو متفاوت فهذا خلق متأصل في الإنسان فلذلك أيقظ الله له الناس ليريضوا أنفسهم على أمانة هذا الخلق من نفوسهم كما في قوله تعالى ( إن الإنسان خلق هلوعا ) الآية وقوله ( خلق الإنسان من عجل ) وقوله ( إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ) وقد تقدمت قريبا .
وعن ابن عباس : تخصيص الإنسان هنا بالكافر فهو من العموم العرفي .
وروي عن أبي أمامة الباهلي بسند ضعيف قال : قال رسول الله A " الكنود هو الذي يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده " وهو تفسير لأدنى معاني الكنود فإن أكله وحده أي عدم إطعامه أحدا معه أو عدم إطعامه المحاويج إغضاء عن بعض مراتب شكر النعمة وكذلك منعه الرفد ومثله : ضربه عبده فإن فيه نسيانا لشكر الله الذي جعل العبد ملكا له ولم يجعله ملكا للعبد فيدل على أن ما هو أشد من ذلك أولى بوصف الكنود .
وقيل التعريف في ( الإنسان ) للعهد وأن المراد به الوليد بن المغيرة وقيل : قرطة بن عبد عمرو بن نوفل القرشي .
واللام في ( لربه ) لام التقوية لأن ( كنود ) وصف ليس أصيلا في العمل وإنما يتعلق بالمعمولات لمشابهته الفعل في الاشتقاق فيكثر أن يقترن مفعوله بلام التقوية ومع تأخيره عن معموله .
وتقديم ( لربه ) لإفادة الاهتمام بمتعلق هذا الكنود لتشنيع هذا الكنود بأنه للرب الذي هو أحق الموجودات بالشكر وأعظم ذلك شرك المشركين ولذلك أكد الكلام بلام الابتداء الداخلة على خبر ( إن ) للتعجيب من هذا الخبر .
وتقديم ( لربه ) على عامله المقترن بلام الابتداء وهي من ذوات الصدر لأنهم يتوسعون في المجرورات والظروف وابن هشام يرى أن لام الابتداء الواقعة في خبر ( إن ) ليست بذات صدارة .
وضمير ( وإنه على ذلك لشهيد ) عائد ألى الإنسان على حسب الظاهر الذي يقتضيه انتساق الضمائر واتحاد المتحدث عنه وهو قول الجمهور .
والشهيد : يطلق على الشاهد هو الخبر بما يصدق دعوى مدع ويطلق على الحاضر ومنه جاء إطلاقه على العالم الذي لا يفوته المعلوم ويطلق على المقر لأنه شهد على نفسه .
والشهيد هنا : إما بمعنى المقر كما في " أشهد أن لا إله إلا الله " .
والمعنى : أن الإنسان مقر بكنوده لربه من حيث لا يقصد الإقرار وذلك في فلتات الأقوال مثل قول المشركين في أصنامهم ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) . وهذا قول يلزمه اعترافهم بأنهم عبدوا ما لا يستحق أن يعبد وأشركوا في العبادة مع المستحق للانفراد بها أليس هذا كنودا لربهم قال تعالى ( وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) وفي فلتات الأفعال كما يعرض للمسلم في المعاصي .
والمقصود في هذه الجملة تفظيع كنود الإنسان بأنه معلوم لصاحبه بأدنى تأمل في أقواله وأفعاله . وعلى هذا فحرف ( على ) متعلق ب ( شهيد ) واسم الإشارة مشار به إلى الكنود المأخوذ من صفة ( كنود ) .
ويجوز أن يكون ( شهيد ) بمعنى " عليم " كقول الحارث بن حلزة في عمرو بن هند : .
وهو الرب والشهيد على يو ... م الخيارين والبلاء بلاء ومتعلق ( شهيد ) محذوفا دل عليه المقام أي عليم بأن الله ربه أي بدلائل الربوبية ويكون قوله ( على ذلك ) بمعنى : مع ذلك أي مع ذلك الكنود هو عليم بأنه ربه مستحق للشكر والطاعة لا للكنود فحرف ( على ) بمعنى ( مع ) كقوله ( وآتى المال على حبه ) و ( يطعمون الطعام على حبه ) وقول الحارث بن حلزة : .
فبقينا على الشناءة تنم ... نا حصون وعزة قعساء والجار والمجرور في موضع الحال وذلك زيادة في التعجب من كنود الإنسان .
وقال ابن عباس والحسن وسفيان : ضمير ( وأنه ) عائد ( إلى ربه ) أي وأن الله على ذلك لشهيد والمقصود أن الله يعلم ذلك في نفس الإنسان وهذا تعريض بالتحذير من الحساب عليه . وهذا يسوغه أن الضمير عائد إلى أقرب مذكور ونقل عن مجاهد وقتادة كلا الوجهين فلعلهما رأيا جواز المحملين وهو أولي .
وتقديم ( على ذلك ) على ( شهيد ) للاهتمام والتعجب ومراعاة الفاصلة .
والشديد : البخيل . قال أبو ذؤيب راثيا :