وإنما خص الإعطاء بالذكر في قوله ( فأما من أعطى واتقى ) مع شمول ( اتقى ) لمفاده وخص البخل بالذكر في قوله وأما من بخل واستغنى ) مع شمول ( استغنى ) له لتحريض المسلمين على الإعطاء والتقوى شعار المسلمين مع التصديق بالحسنى وضد الثلاثة من شعار المشركين .
وفي الآية محسن الجمع مع التقسيم ومحسن الطباق أربع مرات بين ( أعطى ) و ( بخل ) وبين ( اتقى ) و ( استغنى ) وبين ( صدق ) و ( كذب ) وبين ( اليسرى ) و ( العسرى ) .
وجملة ( وما يغني عنه ماله إذا تردى ) عطف على جملة ( فسنيسره للعسرى ) أي سنعجل به إلى جهنم . فالتقدير : إذا تردى فيها .
والتردي : السقوط من علو إلى سفل يعني : لا يغني عنه ماله الذي بخل به شيئا من عذاب النار .
و ( ما ) يجوز أن تكون نافية . والتقدير : وسوف لا يغني عنه ماله إذا سقط في جهنم وتحتمل أن تكون استفهامية وهو استفهام إنكار وتوبيخ . ويجوز على هذا الوجه أن تكون الواو للاستئناف . والمعنى : وما يغني عنه ماله الذي بخل به .
روى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس " أنه كانت لرجل من المنافقين نخلة مائلة في دار رجل مسلم ذي عيال فإذا سقط منها ثمر أكله صبية لذلك المسلم فكان صاحب النخلة ينزع من أيديهم الثمرة فشكا المسلم ذلك إلى النبي A فكلم النبي A صاحب النخلة أن يتركها لهم وله بها نخلة في الجنة فلم يفعل وسمع ذلك أبو الدحداح الأنصاري فاشترى تلك النخلة من صاحبها بحائط فيه أربعون نخلة وجاء إلى النبي A فقال " يا رسول الله اشترها مني بنخلة في الجنة فقال : نعم والذي نفسي بيده فأعطاها الرجل صاحب الصبية قال عكرمة قال ابن عباس فأنزل الله تعالى ( والليل إذا يغشى ) إلى قوله ( للعسرى ) وهو حديث غريب ومن أجل قول ابن عباس : فأنزل الله تعالى ( والليل إذا يغشى ) قال جماعة : السورة مدنية وقد بينا في المقدمة الخامسة أنه كثيرا ما يقع في كلام المتقدمين قولهم : فأنزل الله في كذا قوله كذا أنهم يريدون به أن القصة مما تشمله الآية . وروي أن النبي A قال " كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح " ولمح إليها بشار بن برد في قوله : .
إن النحيلة إذ يميل بها الهوى ... كالعذق مال على أبي الدحداح ( إن علينا للهدى [ 12 ] وإن لنا للآخرة والأولى [ 13 ] ) استئناف مقرر لمضمون الكلام السابق من قوله ( فأما من أعطى ) إلى قوله ( للعسرى ) وذلك لإلقاء التبعة على من صار إلى العسرى بأن الله أعذر إليه إذ هداه بدعوة الإسلام إلى الخير فأعرض عن الاهتداء باختياره اكتساب السيئات فإن التيسير لليسرى يحصل عند ميل العبد إلى عمل الحسنات والتيسير للعسرى يحصل عند ميله إلى عمل السيئات . وذلك الميل هو المعبر عنه بالكسب عند الأشعري وسماه المعتزلة : قدرة العبد وهو أيضا الذي اشتبه على الجبرية فسموه الجبر .
وتأكيد الخبر ب ( إن ) ولام الابتداء يومئ إلى أن هذا كالجواب عما يجيش في نفوس أهل الضلال عند سماع الإنذار السابق من تكذيبه بأن الله لو شاء منهم ما دعاهم إليه لألجئهم إلى الإيمان . فقد حكي عنهم في الآية الأخرى ( وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ) .
وحرف ( على ) إذا وقع بين اسم وما يدل على فعل يفيد معنى اللزوم أي لازم لنا هدى الناس وهذا التزام من الله اقتضاه فضله وحكمته فتولى إرشاد الناس إلى الخير قبل أن يؤاخذهم بسوء أعمالهم التي هي فساد فيما صنع الله من الأعيان والأنظمة التي أقام عليها فطرة نظام العالم فهدى الله الإنسان بأن خلقه قابلا للتمييز بين الصلاح والفساد ثم عزز ذلك بأن أرسل إليه رسلا مبينين لما قد يخفي أمره من الأفعال أو يشتبه على الناس فساده بصلاحه ومنبهين الناس لما قد يغفلون عنه من سابق ما عملوه .
وعطف ( وإن لنا للآخرة والأولى ) على جملة ( إن علينا للهدى ) تتميم وتنبيه على أن تعهد الله لعباده بالهدى فضل منه وإلا فإن الدار الآخرة ملكه والدار الأولى ملكه بما فيهما قال تعالى ( له ملك السماوات والأرض وما بينهما ) فله التصرف فيهما كيف يشاء فلا يحسبوا أن عليهم حقا على الله تعالى إلا ما تفضل به .
A E