والتراث : المال الموروث أي الذي يخلفه الرجل بعد موته لوارثه وأصله : وراث بواو في أوله بوزن فعال من مادة ورث بمعنى مفعول مثل الدقاق والحطام أبدلت واوه تاء على غير قياس كما فعلوا في تجاه وتخمة وتهمة وتقاة وأشباهها .
A E والأكل : مستعار للانتفاع بالشيء انتفاعا لا يبقي منه شيئا . وأحسب أن هذه الاستعارة من مبتكرات القرآن إذ لم أقف على مثلها في كلام العرب .
وتعريف التراث عوض عن المضاف إليه . أي تراث اليتامى وكذلك كان أهل الجاهلية يمنعون النساء والصبيان من أموال مورثيهم .
وأشعر قوله ( تأكلون ) بأن المراد التراث الذي لا حق لهم فيه ومنه يظهر وجه إيثار لفظ التراث دون إن يقال : وتأكلون المال لأن التراث مال مات صاحبه وأكله يقتضي أن يستحق ذلك المال عاجز عن الذب عن ماله لصغر أو أنوثة .
واللم : الجمع ووصف الأكل به وصف بالمصدر للمبالغة أي أكلا جامعا مال الوارثين إلى مال الآكل كقوله تعالى ( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) .
والجم : الكثير يقال : جم الماء في الحوض إذا كثر وبئر جموم بفتح الجيم : كثيرة الماء أي حبا كثيرا ووصف الحب بالكثرة مراد به الشدة لأن الحب معنى من المعاني النفسية لا يوصف بالكثرة التي هي وفرة عدد أفراد الجنس .
فالجم مستعار لمعنى القوي الشديد أي حبا مفرطا وذلك محل ذم حب المال لأن إفراد حبه يوقع في الحرص على اكتسابه بالوسائل غير الحق . كالغصب والاختلاس والسرقة وأكل الأمانات .
( كلا ) زجر وردع عن الأعمال المعدودة قبله وهي عدم إكرامهم اليتيم وعدم حضهم على طعام المسكين وأكلهم التراث الذي هو مال غير آكله وعن حب المال حبا جما .
( إذا دكت الأرض دكا دكا [ 21 ] وجاء ربك والملك صفا صفا [ 22 ] وجيء يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى [ 23 ] يقول ياليتني قدمت لحياتي [ 24 ] فيومئذ لا يعذب عذابه أحد [ 25 ] ولا يوثق وثاقه أحد [ 26 ] ) استئناف ابتدائي انتقل به من تهديدهم بعذاب الدنيا الذي في قوله ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد ) الآيات إلى الوعيد بعذاب الآخرة . فإن استخفوا بما حل بالأمم قبلهم أو أمهلوا فأخر عنهم العذاب في الدنيا فإن عذابا لا محيص لهم عنه ينتظرهم يوم القيامة حين يتذكرون قسرا فلا ينفعهم التذكر ويندمون ولات ساعة مندم .
فحاصل الكلام السابق أن الإنسان الكافر مغرور ينوط الحوادث بغير أسبابها ويتوهمها على غير ما بها ولا يصغي إلى دعوة الرسل فيستمر طول حياته في عماية وقد زجروا عن ذلك زجرا مؤكدا .
وأتبع زجرهم إنذارا بأنهم يحين لهم يوم يفيقون فيه من غفلتهم حين لا تنفع الإفاقة .
والمقصود من هذا الكلام هو قوله ( فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ) وقوله ( يأيتها النفس المطمئنة ) وأما ما سبق من قوله ( إذا دكت الأرض ) إلى قوله ( وجيء يومئذ بجهنم ) فهو توطئة وتشويق لسماع ما يجيء بعده وتهويل لشأن ذلك اليوم وهو الوقت الذي عرف بإضافة جملة ( دكت الأرض ) وما بعدها من الجمل وقد عرف بأشراط حلوله وبما يقع فيه من هول العقاب .
والدك : الحطم والكسر .
والمراد بالأرض الكرة التي عليها الناس ودكها حطمها وتفرق أجزائها الناشى عن فساد الكون الكائنة عليه الآن وذلك بما يحدثه الله فيها من زلازل كما في قوله ( إذا زلزلت الأرض زلزالها ) الآية .
( ودكا دكا ) يجوز أن يمون أولهما منصوبا علي المفعول المطلق المؤكد لفعله . ولعل تأكيده هنا لأن هذه الآية أول آية ذكر فيها دك الجبال وإذ قد كان أمرا خارقا للعادة كان المقام مقتضيا تحقيق وقوعه حقيقة دون مجاز ولا مبالغة فأكد مرتين هنا ولم يؤكد نظيره في قوله ( فدكتا دكة واحدة ) في سورة الحاقة ف ( دكا ) الأول مقصود به رفع احتمال المجاز عن ( دكتا ) الدك أي هو دك حقيقي و ( دكا ) الثاني منصوبا على التوكيد اللفظي لدكا الأول لزيادة تحقيق إرادة مدلول الدك الحقيقي لأن دك الأرض العظيمة أمر عجيب فلغرابته اقتضى اثباته زيادة تحقيق لمعناه الحقيقي