وجملة ( لا يؤمنون ) في موضع الحال فإنها لو وقع في مكانها اسم لكان منصوبا كما في قوله تعالى ( فما لكم في المنافقين فئتين ) والحال هي مناط التعجيب وقد تقدم تفصيل القول في تركيبه وفي الصيغ التي ورد عليها أمثال هذا التركيب عند قوله تعالى ( قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله ) في سورة البقرة .
ومتعلق ( يؤمنون ) محذوف يدل عليه السياق أي بالبعث والجزاء .
ويجوز تنزيل فعل ( يؤمنون ) منزلة اللازم أي لا يتصفون بالإيمان أي ما سبب أن لا يكونوا مؤمنين لظهور دلائل على انفراد الله تعالى بالإلهية فكيف يستمرون على الإشراك به .
والمعنى : التعجيب والإنكار من عدم إيمانهم مع ظهور دلائل صدق ما دعوا إليه وأنذروا به .
و ( لا يسجدون ) عطف على ( لا يؤمنون ) و ( إذا قريء عليهم القرآن ) ظرف قدم على عامله للاهتمام به وتنويه شأن القرآن .
وقراءة القرآن عليهم قراءته قراءة تبليغ ودعوة وقد كان النبي A يعرض عليهم القرآن جماعات وأفرادا وقد قال له عبد الله بن أبي بن سلول " لا تغشنا به في مجالسنا " وقرأ النبي A القرآن على الوليد بن المغيرة كما ذكرناه في سورة عبس .
والسجود مستعمل بمعنى الخضوع والخشوع كقوله تعالى ( والنجم والشجر يسجدان ) وقوله ( يتفيأ عن اليمين والشمائل سجدا لله ) أي إذا قريء عليهم القرآن لا يخضعون لله ولمعاني القرآن وحجته ولا يؤمنون بحقيقته ودليل هذا المعنى مقابلته بقوله ( بل الذين كفروا يكذبون ) .
وليس في هذه الآية ما يقتضي أن عند هذه الآية سجدة من سجود القرآن والأصح من قول مالك وأصحابه أنها ليست من سجود القرآن خلافا لأبن وهب من أصحاب مالك فإنه جعل سجودات القرآن أربع عشرة . وقال الشافعي : هي سنة . وقال أبو حنيفة : واجبة . والأرجح أن عزائم السجود المنسوبة إحدى عشرة سجدة وهي التي رويت بالأسانيد الصحيحة عن الصحابة . وإن ثلاث آيات غير الإحدى عشرة آية رويت فيها أخبار أنها سجد النبي A عند قراءتها منها هذه وعارضتها روايات أخرى فهي : إما قد ترك سجودها وإما لم يؤكد ومنها قوله تعالى هنا ( وإذا قريء عليهم القرآن لا يسجدون ) . وقال ابن العربي السجود في سورة الانشقاق قول المدنيين من أصحاب مالك اه .
قلت : وهو قول ابن وهب ولا خصوصية لهذه الآية بل ذلك في السجدات الثلاث الزائدة على الإحدى عشرة وقد قال مالك في الموطأ بعد أن روى حديث أبو هريرة " الأمر عندنا أن عزائم السجود إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء " وقال أبو حنيفة والشافعي : سجدات التلاوة أربع عشرة بزيادة سجدة سورة النجم وسجدة سورة الانشقاق وسجدة سورة العلق . وقال أحمد : هن خمس عشرة سجدة بزيادة السجدة في آخر الآية من سورة الحج ففيها سجدتان عنده .
( بل الذين كفروا يكذبون [ 22 ] ) يجوز أنه إضراب انتقالي من التعجيب من عدم إيمانهم وإنكار عليهم إلى الإخبار عنهم بأنهم مستمرون على الكفر والطعن في القرآن فالكلام ارتقاء في التعجيب والإنكار .
فالإخبار عنهم بأنهم يكذبون مستعمل في التعجيب والإنكار فلذلك عبر عنه بالفعل المضارع الذي يستروح منه استحضار الحالة مثل قوله ( يجادلنا في قوم لوط ) .
A E ويجوز أن يكون ( بل ) إضرابا إبطاليا أي لا يوجد ما لأجله لا يؤمنون ولا يصدقون بالقرآن بل الواقع بضد ذلك فإن بواعث الإيمان من الدلائل متوفرة ودواعي الاعتراف بصدق القرآن والخضوع لدعوته متظاهرة ولكنهم يكذبون أي يستمرون على التكذيب عنادا وكبرياء ويوميء إلى ذلك قوله ( والله أعلم بما يوعون ) .
وهذان المعنيان نظير الوجهين في قوله تعالى في سورة الانفطار ( بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين ) .
وفي اجتلاب الفعل المضارع دلالة على حدوث التكذيب منهم وتجدده أي بل هم مستمرون على التكذيب عنادا وليس ذلك اعتقادا فكما نفي عنهم تجدد الإيمان وتجدد الخضوع عند قراءة القرآن أثبت لهم تجدد التكذيب .
وقوله ( الذين كفروا ) إظهارا في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال : بل هم يكذبون فعدل إلى الموصول والصلة لما تؤذن بها الصلة من ذمهم بالكفر للإيماء إلى علة الخبر أي أنهم استمروا على التكذيب لتأصل الكفر فيهم وكونهم ينعتون به .
( والله أعلم بما يوعون [ 23 ] )