وأما معنى ( ظنين ) بالظاء المشالة فهو فعيل بمعنى مفعول مشتق من الظن بمعنى التهمة أي مظنون . ويراد إنه مظنون به سوء أي أن يكون كاذبا فيما يخبر به عن الغيب وكثر حذف مفعول ظنين بهذا المعنى في الكلام حتى صار الظن يطلق بمعنى التهمة فعدي إلى مفعول واحد . وأصل ذلك أنهم يقولون : ظن به سوءا فيتعدى إلى متعلقه الأول بحرف باء الجر فلما كثر استعماله حذفوا الباء ووصلوا الفعل بالمجرور فصار مفعولا فقالوا ظنه : بمعنى : اتهمه يقال : سرق لي كذا وظننت فلانا .
وحرف ( على ) في هذا الوجه للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى الظرفية نحو ( أو أجد على النار هدى ) أي ما هو بمتهم في أمر الغيب وهو الوحي أن لا يكون كما بلغه أي أن ما بلغه هو الغيب لا ريب فيه وعكسه قولهم : ائتمنه على كذا .
( وما هو بقول شيطان رجيم [ 25 ] ) عطف على ( إنه لقول رسول كريم ) وهذا رجوع ما أقسم عليه من أن القرآن قول رسول كريم بعد أن استطرد بينهما بتلك المستطردات الدالة على زيادة كمال هذا القول بقدسية مصدره ومكانة حامله عند الله وصدق متلقيه منه عن رؤيا محقة لا تخيل فيها فكان التخلص إلى العود لتنزيه القرآن بمناسبة ذكر الغيب في قوله تعالى ( وما هو على الغيب بضنين ) .
A E فإن القرآن من أمر الغيب الذي أوحى به إلى محمد A وفيه كثير من الأخبار عن أمور الغيب الجنة والنار ونحو ذلك .
وقد علم أن الضمير عائد إلى القرآن لأنه اخبر عن الضمير بالقول الذي هو من جنس الكلام إذ قال ( وما هو بقول شيطان رجيم ) فكان المخبر عنه من قبيل الأقوال لا محالة فلا يتوهم أن الضمير عائد إلى ما عاد إليه ضمير ( وما هو على الغيب بضنين ) .
وهذا إبطال لقول المشركين فيه : إنه كاهن فإنهم كانوا يزعمون إن الكهان تأتيهم الشياطين بأخبار الغيب قال تعالى ( وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون ) وقال ( وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون ) وقال ( هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تتنزل على كل أفاك أثيم ) وهم كانوا يزعمون أن الكاهن كان يتلقى عن شيطانه ويسمون شيطانه رئيا .
وفي حديث فترة الوحي ونزول سورة والضحى : إن حمالة الحطب امرأة أبي لهب وهي أم جميل بنت حرب قالت للنبي A " أرى شيطانك قد قلاك " .
ورجيم فعيل بمعنى مفعول أي مرجوم . والمرجوم : المبعد الذي يتباعد الناس من شره فإذا أقبل عليهم رجموه فهو وصف كاشف للشيطان لأنه لا يكون إلا متبرأ منه .
( فأين تذهبون [ 26 ] ) جملة ( فأين تذهبون ) معترضة بين جملة ( وما هو بقول شيطان رجيم ) وقوله ( إن هو إلا ذكر للعالمين ) .
والفاء لتفريغ التوبيخ والتعجيز على الحجج المتقدمة المثبتة أن القرآن لا يجوز أن يكون كلام كاهن وأنه وحي من الله بواسطة الملك .
وهذا من اقتران الجملة المعترضة بالفاء كما تقدم في قوله تعالى ( فمن شاء ذكره ) في سورة عبس .
و ( أين ) اسم استفهام عن المكان . وهو استفهام إنكاري عن مكان ذهابهم أي طريق ضلالهم تمثيلا لحالهم في سلوك طرق الباطل بحال من ظل الطريق الجادة فيسأله السائل منكرا عليه سلوكه أي أعدل عن هذا الطريق فإنه مضلة .
ويجوز أن يكون الاستفهام مستعملا في التعجيز عن طلب طريق يسلكونه إلى مقصدهم من الطعن في القرآن .
والمعنى : أنه قد سدت عليكم طرق بهتانكم إذ اتضح بالحجة الدامغة بطلان ادعاءكم أن القرآن كلام مجنون أو كلام كاهن فماذا تدعون بعد ذلك .
واعلم أن جملة ( أين تذهبون ) قد أرسلت مثلا ولعله من مبتكرات القرآن وكنت رأيت في كلام بعضهم : أين يذهب بك لمن كان في خطأ وعماية .
( إن هو إلا ذكر للعالمين [ 27 ] لمن شاء منكم أن يستقيم [ 28 ] )