وكيف انصرف نظره عن سياق الآية في الرد على أقوال المشركين في النبي A ولم يقولوا في جبريل شيئا لأن الزمخشري رام أن ينتزع من الآية دليلا لمذهب أصحاب الاعتزال من تفضيل الملائكة على الأنبياء وهي مسألة لها مجال آخر على أنك قد علمت إن الصفات التي أجريت على ( رسول ) في قوله تعالى ( إنه لقول رسول كريم ) إلى قوله ( آمين ) غير متعين انصرافها إلى جبريل فإنها محتملة الانصراف إلى محمد A . وقد يطغى عليه حب الاستدلال لعقائد أهل الاعتزال طغيانا يرمي بفهمه في مهاوي الضآلة وهل يسمح بال ذي مسكن من علم بمجاري كلام العقلاء أن يتصدى متصد لبيان فضل أحد بأن ينفي عنه إنه مجنون وهذا كله مبني على تفسير ( رسول كريم ) بجبريل فأما إن أريد به محمد A أو هو وجبريل عليهما السلام فهذا مقتلع من جذره .
A E ولا يخفى إن العدول عن اسم النبي العلم إلى ( صاحبكم ) لما يؤذن به ( صاحبكم ) من كونهم على علم بأحواله وأما العدول عن ضميره إن كان المراد ب ( رسول ) خصوص النبي A فمن الإظهار في مقام الإضمار للوجه المذكور وإذا أريد ب ( رسول ) كلاهما فذكر ( صاحبكم ) لتخصيص الكلام به .
( ولقد رآه بالأفق المبين [ 23 ] ) عطف على جملة ( وما صاحبكم بمجنون ) .
والمناسبة بين الجملتين إن المشركين كانوا إذا بلغهم أن الرسول A يخبر أنه نزل عليه جبريل بالوحي من وقت غار حراء فما بعده استهزأوا وقالوا : إن ذلك الذي يتراءى له هو جني فكذبهم الله بنفي الجنون عنه ثم بتحقيق أنه إنما رأى جبريل القوي الأمين . فضمير الرفع عائد إلى صاحب من قوله ( وما صاحبكم ) وضمير النصب عائد إلى ( رسول كريم ) وسياق الكرم يبين معاد الرائي والمرئي .
و ( الأفق ) : الفضاء الذي يبدو للعين من الكرة الهوائية بين طرفي مطلع الشمس ومغربها من حيث يلوح ضوء الفجر ويبدو شفق الغروب وهو يلوح كأنه قبة زرقاء والمعنى رآه ما بين السماء والأرض .
و ( المبين ) : وصف الأفق أي للأفق الواضح البين .
والمقصود من هذا الوصف نعت الأفق الذي تراءى منه جبريل للنبي عليهما الصلاة والسلام بأنه أفق واضح بين لا تشتبه فيه المرئيات ولا يتخيل فيه الخيال وجعلت تلك الصفة علامة على ان المرئي ملك وليس بخيال لأن الأخيلة التي يتخيلها المجانين إنما يتخيلونها على الأرض تابعة لهم على ما تعودوه من وقت الصحة وقد وصف النبي E الملك الذي رآه عند نزول سورة المدثر بأنه على كرسي جالس بين السماء والأرض ولهذا تكرر ذكر ظهور الملك بالأفق في سورة النجم في قوله تعالى ( علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ) إلى أن قال ( أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى ) الآيات قيل رأى النبي جبريل عليهما السلام بمكة من جهة جبل أجياد من شرقيه .
( وما هو على الغيب بضنين [ 24 ] ) الضمير عائد إلى ( صاحبكم ) كما يقتضيه السياق فإن المشركين لم يدعوا أن جبريل ضنين على الغيب وإنما ادعوا ذلك للنبي A ظلما وزورا ولقرب المعاد .
والغيب : ما غاب عن عيان الناس أو عن علمهم وهو تسمية للمصدر .
والمراد ما أستأثر الله بعلمه إلا أن يطلع عليه بعض أنبياءه ومنه وحي الشرائع والعلم بصفات الله تعالى وشؤونه ومشاهدة ملك الوحي وتقدم في قوله تعالى ( الذين يؤمنون بالغيب ) في سورة البقرة .
وكتبت كلمة ( بضنين ) في مصاحف الأمصار بضاد ساقطة كما اتفق عليه القراء .
وحكي عن أبي عبيد قال الطبري : هو ما عليه مصاحف المسلمين متفقة وإن اختلفت قراءتهم به .
وفي الكشاف " هو في مصحف أبي بالضاد وفي مصحف ابن مسعود بالظاء " وقد اختصر الشاطبي في منظومته في الرسم على رسمه الضاد إذ قال : الضاد في ( بضنين ) تجمع البشرا وقد اختلف القراء في قراءته فقرأه نافع وابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر وخلف وروح عن يعقوب بالضاد الساقطة التي تخرج من حافة اللسان مما يلي الأضراس وهي القراءة الموافقة لرسم المصحف الإمام