وكشف عن شبهتهم في إحالة البعث باستبطائهم إياه وجعلهم ذلك أمارة على انتفائه فلذلك يسأل الرسول A عن تعيين وقت الساعة سؤال تعنت وأن شأن الرسول أن يذكرهم بها وليس شأنه تعيين إبانها وأنها يوشك أن تحل فيعلمونها عيانا وكأنهم مع طول الزمن لم يلبثوا إلا جزءا من النهار .
( والنزعات غرقا [ 1 ] والناشطات نشطا [ 2 ] والسابحات سبحا [ 3 ] فالسابقات سبقا [ 4 ] فالمدبرات أمرا [ 5 ] يوم ترجف الراجفة [ 6 ] تتبعها الرادفة [ 7 ] قلوب يومئذ واجفة [ 8 ] أبصرها خاشعة [ 9 ] ) ابتدئت بالقسم بمخلوقات ذات صفات عظيمة قسما مراد منه تحقيق ما بعده من الخبر وفي هذا القسم تهويل المقسم به .
وهذه الأمور الخمسة المقسم بها جموع جرى لفظها على صيغة الجمع بألف وتاء لأنها في تأويل جماعات تتحقق فيها الصفات المجموعة فهي جماعات نازعا ناشطات سابحات سابقات مدبرات فتلك صفات لموصوفات محذوفة تدل عليها الأوصاف الصالحة لها .
فيجوز أن تكون صفات لموصوفات من نوع واحد له أصناف تميها تلك الصفات .
ويجوز أن تكون صفات لموصوفات مختلفة الأنواع بأن تكون كل صفة خاصية من خواص نوع من الموجودات العظيمة قوامه بتلك الصفة .
والذي يقتضيه غالب الاستعمال أن المتعاطفات بالواو صفات مستقلة لموصوفات مختلفة أنواع أو أصناف أو لموصوف واحد له أحوال متعددة وأن المعطوفات بالفاء صفات متفرعة عن الوصف الذي عطفت عليه بالفاء فهي صفات متعددة متفرع بعضها عن بعض لموصوف واحد فيكون قسما بتلك الأحوال العظيمة باعتبار موصوفاتها .
وللسلف من المفسرين أقوال في تعيين موصوفات هذه الأوصاف وفي تفسير معاني الأوصاف . وأحسن الوجوه على الجملة أن كل صفة مما عطف بالواو مرادا بها موصوف غير المراد بموصوف الصفة الأخرى وأن كل صفة عطفت بالفاء أن تكون حال أخرى للموصوف المعطوف بالواو كما تقدم . وسنعتمد في ذلك أظهر الوجوه وأنظمها ونذكر ما في ذلك من الاختلاف ليكون الناظر على سعة بصيرة .
وهذا الإجمال مقصود لتذهب أفهام السامعين كل مذهب ممكن فتكثر خطور المعاني في الأذهان وتتكرر الموعظة والعبرة باعتبار وقع كل معنى في نفس له فيها أشد وقع وذلك من وفرة المعاني مع إيجاز الألفاظ .
فالنازعات : وصف مشتق من النزع ومعاني النزع كثيرة كلها ترجع إلى الإخراج والجذب فمنه حقيقة ومنه مجاز .
فيحتمل أن يكون ( النازعات ) جماعة من الملائكة وهو الموكلون بقبض الأرواح فالنزع هو إخراج الروح من الجسد شبه بنزع الدلو من البئر أو الركية ومنهم قولهم في المحتضر وهو في النزع . وأجريت صفتهم على صيغة التأنيث بتأويل الجماعة أو الطوائف كقوله تعالى ( قالت الأعراب آمنا ) .
وروي هذا عن علي وابن مسعود وابن عباس ومجاهد ومسروق وابن جبير والسدي فأقسم الله بالملائكة لأنها من أشرف المخلوقات وخصها بهذا الوصف الذي هو من تصرفاتها تذكيرا للمشركين إذ هم في غفلة عن الآخرة وما بعد الموت ولأنهم شديد تعلقهم بالحياة كما قال تعالى لما ذكر اليهود ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا ) فالمشركين مثل في حب الحياة ففي القسم بملائكة قبض الأرواح عظة لهم وعبرة .
والقسم على هذا الوجه مناسب للغرض ألأهم من السورة وهو إثبات البعث لأن الموت أول منازل الآخرة فهذا من براعة الاستهلال .
A E وغرقا : اسم مصدر أغرق وأصله إغراقا جيء به مجردا عن الهمزة فعومل معاملة المصدر الثلاثي المتعدي مع أنه لا يوجد غرق متعديا ولا أن مصدره مفتوح عين الكلمة لكنه لما جعل عوضا عن مصدر أغرق وحذفت منه الزوائد قدر فعله بعد حذف الزوائد متعديا .
ولو قلنا : إنه سكنت عينه تخفيفا ورعيا للمزاوجة مع نشطا وسبحا وسبقا وأمرا لكان أرقب لأن متحرك الوسط يخفف بالسكون وهذا مصدر محذوف هو مفعول مطلق للنازعات أي نزعا غرقا أي مغرقا أي تنزع الأرواح من أقاصي الأجساد .
ويجوز أن تكون ( النازعات ) صفة للنجوم أي تنزع من أفق إلى أفق أي تسير يقال : ينزع إلى الأمر الفلاني أي يميل ويشتاق .
وغرقا : تشبيه لغروب النجوم بالغرق في الماء وقال الحسن وقتادة وأبو عبيدة وابن كيسان والأخفش وهو على هذا متعين لأن يكون مصدر غرق وأن تسكين عينه تخفيف