والمخاطبون بضمير ( جمعناكم ) : المشركون الذين سبق الكلام لتهديدهم وهم المكذبون بالقرآن لأن عطف ( والأولين ) على الضمير يمنع من أن يكون الضمير لجميع المكذبين مثل الضمائر التي قبله لأن الأولين من جملة المكذبين فلا يقال لهم : جمعناكم والأولين فتعين أن يختص بالمكذبين بالقرآن .
والمعنى : جمعناكم والسابقين قبلكم من المكذبين .
A E وقد أنذروا بما حل بالأولين أمثالهم من عذاب الدنيا في قوله ( ألم نهلك الأولين ) . فأريد توقيفهم يومئذ على صدق ما كانوا ينذرون به في الحياة الدنيا من مصيرهم إلى ما صار إليه أمثالهم فلذلك لم يتعلق الغرض بذكر الأمم التي جاءت من بعدهم .
وباعتبار هذا الضمير فرع عليه قوله ( فإن كان لكم كيد فكيدون ) فكان تخلصا إلى توبيخ الحاضرين على ما يكيدون به للرسول A وللمسلمين قال تعالى ( إنهم يكدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ) وأن كيدهم زائل وأن سوء العقبى عليهم .
وفرع على ذلك ( فإن كان لكم كيد فكيدون ) أي فإن كان لكم كيد اليوم كما كان لكم في الدنيا أي كيد بديني ورسولي فافعلوه .
والأمر للتعجيز والشرط للتوبيخ والتذكير بسوء صنيعهم في الدنيا والتسجيل عليهم بالعجز عن الكيد يومئذ حيث مكنوا من البحث عما عسى أن يكون لهم من الكيد فإذا لم يستطيعوه بعد ذلك فقد سجل عليهم العجز وهذا من العذاب الذي يعذبونه إذ هو من نوع العذاب النفساني وهو أوقع على العاقل من العذاب الجسماني .
( ويل يومئذ للمكذبين [ 40 ] ) تكرير للوعيد والتهديد وهو متصل بما قبله كاتصال نظيره المذكور آنفا .
( إن المتقين في ظلال وعيون [ 41 ] وفواكه مما يشتهون [ 42 ] كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون [ 43 ] إنا كذلك نجزي المحسنين [ 44 ] ) يجوز أن يكون هذا ختام الكلام الذي هو تقريع للمشركين حكي لهم فيه نعيم المؤمنين الذي لا يشاهده المشركون لبعدهم عن مكانه فيحكي لهم يومئذ فيما يقال لهم ليكون ذلك أشد حسرة عليهم وتنديما لهم على ما فرطوا فيه مما بادر إليه المتقون المؤمنون ففازوا فيكون هذا من جملة القول الذي حذف فعله عند قوله ( انطلقوا ) الخ .
ويجوز أن يكون هذا ابتداء كلام مستأنف انتقل به إلى ذكر نعيم المؤمنين المتقين تنويها بشأنهم وتعريضا لترغيب من المشركين الموجودين في الإقلاع عنه لينالوا كرامة المتقين .
وظلال : جمع ظل وهي ظلال كثيرة لكثرة شجر الجنة كثرة المستظلين بظلها ولأن كل واحد منهم ظلا يتمتع فيه هو ومن إليه وذلك أوقع في النعيم .
والتعريف في ( المتقين ) للاستغراق فلكل واحد من المتقين كون في ظلال .
و ( في ) للظرفية وهي ظرفية حقيقية بالنسبة للظلال لأن المستظل يكون مظروفا في الظل وظرفية مجازية بالنسبة للعيون والفواكه تشبيها لكثرة ما حولهم من العيون والفواكه بإحاطة الظروف وقوله ( مما يشتهون ) صفة ( فواكه ) . وجمع ( فواكه ) الفواكه وغيرها فالتبعيض الذي دل عليه حرف ( من ) تبعيض من أصناف الشهوات لا من أصناف الفواكه فأفاد أن تلك الفواكه مضمومة إلى ملاذ أخرى مما اشتهوه .
وجملة ( كلوا واشربوا ) مقول قول محذوف وذلك المحذوف من موقع الحال من ( المتقين ) والتقدير : مقولا لهم كلوا واشربوا .
والمقصود من ذلك القول كرامتهم بعرض تناول النعيم عليهم كما يفعله المضيف بضيوفه فالأمر في ( كلوا واشربوا ) مستعمل في العرض .
و ( هنيئا ) دعاء تكريم كما يقال للشارب أو الطعام في الدنيا : هنيئا مريئا كقوله تعالى ( فكلوه هنيئا مريئا ) في سورة النساء .
و ( هنيئا ) وصف لموصوف غير مذكور دل عليه فعل ( كلوا واشربوا ) وذلك الموصوف مفعول مطلق من ( كلوا واشربوا ) مبين للنوع لقصد الدعاء مثل : سقيا ورعيا بالدعاء بالخير وتبا وسحقا في ضده .
والباء في ( بما كنتم تعملون ) للسببية أي لإفادة تسبب ما بعدها في وقوع متعلقه أي كلوا واشربوا بسبب ما كنتم تعملون في الدنيا من الأعمال الصالحة وذلك من إكرامهم بأن جعل ذلك الإنعام حقا لهم