وجملة ( لم يكن شيئا مذكورا ) يجوز أن تكون نعتا ل ( حين ) بتقدير ضمير رابط بمحذوف لدلالة لفظ ( حين ) على أن العائد مجرور بحرف الظرفية حذف مع جاره كقوله تعالى ( واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) إذ التقدير : لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا فالتقدير هنا : لم يكن فيه الإنسان شيئا مذكورا أي كان معدوما في زمن سبق .
ويجوز أن تكون الجملة حالا من ( الإنسان ) وحذف العائد كحذفه في تقدير النعت .
والشيء : اسم للموجود .
والمذكور : المعين الذي هو بحيث يذكر أي يعبر عنه بخصوصه ويخبر عنه بالأخبار والأحوال . ويتعلق لفظه الدال عليه بالأفعال .
فأما المعدوم فلا يذكر لأنه لا تعين له فلا يذكر إلا بعنوانه العام كما تقدم آنفا وليس هذا هو المراد بالذكر هنا .
ولهذا نجعل ( مذكورا ) وصفا ل ( شيئا ) أريد به تقييد ( شيئا ) أي شيئا خاصا وهو الموجود المعبر عنه باسمه المعين له .
( إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا [ 2 ] ) استئناف بياني مترتب على التقرير الذي دل عليه ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ) لما فيه من التشويق .
والتقرير يقتضي الإقرار بذلك لا محالة لأنه معلوم بالضرورة فالسماع يتشوف لما يرد بعد هذا التقرير فقيل له إن الله خلقه بعد أن كان معدوما فأوجد نطفة كانت معدومة ثم استخرج منها إنسانا فثبت تعلق الخلق بالإنسان بعد عدمه .
وتأكيد الكلم بحرف ( إن ) لتنزيل المشركين منزلة من ينكر أن الله خلق الإنسان لعدم جريهم على موجب العلم حيث عبدوا أصناما لم يخلقوهم .
والمراد ب ( الإنسان ) مثل ما أريد به من قوله ( هل أتى على الإنسان ) أي كل نوع الإنسان .
وأدمج في ذلك كيفية خلق الإنسان من نطفة التناسل لما في تلك الكيفية من دقائق العلم الإلهي والقدرة والحكمة .
وقد تقدم معنى النطفة في سورة القيامة .
وأمشاج : مشتق من المشج وهو الخلط أي نطفة مخلوطة قال تعالى ( سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون ) وذلك تفسير معنى الخلط الذي أشير إليه هنا .
وصيغة ( أمشاج ) ظاهرها صيغة جمع وعلى ذلك حملها الفراء وابن السكيت والمبرد فهي إما جمع مشج بكسر فسكون بوزن عدل أي ممشوج أي مخلوط مثل ذبح وهذا ما اقتصر عليه في اللسان والقاموس أو جمع مشج بفتحتين مثل سبب وأسباب أو جمع مشج بفتح فكسر مثل كتف وأكتاف .
والوجه ما ذهب إليه صاحب الكشاف : أن ( أمشاج ) مفرد كقولهم : برمة أعشار وبرد أكياش " بهمزة كاف وتحتية ألف وشين معجمة الذي أعيد غزله مرتين " . قال " ولا يصح أن يكون أمشاج جمع مشج بل هما " أي مشج وأمشاج " مثلان في الإفراد اه . وقال بعض الكاتبين : إنه خالف كلام سيبويه . وأشار البيضاوي إلى ذلك وأحسب أنه لم ير كلام سيبويه صريحا في منع أن يكون ( أمشاج ) مفردا لأن أثبت الإفراد في كلمة أنعام والزمخشري معروف بشدة متابعة سيبويه .
A E فإذا كان ( أمشاج ) في هذه الآية مفردا كان على سورة الجمع كما في الكشاف . فوصف نطفة به غير محتاج إلى تأويل وإذا كان جمعا كما جرا عليه كلام الفراء وابن السكيت والمبرد كان وصف النطفة به باعتبار ما تشتمل عليه النطفة من أجزاء مختلفة الخواص " فلذلك يصير كل جزء من النطفة عضوا " فوصفوا النطفة بجمع الاسم للمبالغة أي شديدة الاختلاط .
وهذه الأمشاج منها ما هو أجزاء كيميائية نباتية أو ترابية ومنها ما هو عناصر قوى الحياة .
وجملة ( نبتليه ) في موضع الحال من الإنسان وهي حالة مقدرة أي مريدين ابتلاءه في المستقبل أي بعد بلوغه طور العقل والتكليف وهذه الحال كقولهم : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا .
وقد وقعت هذه الحال معترضة بين جملة ( خلقنا ) وبين ( فجعلناه سميعا بصيرا ) لأن الابتلاء أي التكليف الذي يظهر به امتثاله أو عصيانه إنما يكون بعد هدايته إلى السبيل الخير فكان مقتضى الظاهر أن يقع ( نبتليه ) بعد جملة ( إن هديناه السبيل ) ولكنه قدم للاهتمام بهذا الابتلاء الذي هو سبب السعادة والشقاوة .
وجيء بجملة ( إنا هديناه السبيل ) بيانا لجملة ( نبتليه ) تفننا في نظم الكلام