وعندي أن هذه الآيات من قوله ( واستمع يوم ينادي المنادي ) إلى قوله ( المصير ) مكان قريب هي مع ما تفيده من تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم مبشر بطريقة التوجيه البديعي إلى تهديد المشركين بعذاب يحل بهم في الدنيا عقب نداء يفزعهم فيلقون إثره حتفهم وهو عذاب يوم بدر فخوطب النبي صلى الله عليه وسلم بترقب يوم يناديهم فيه مناد إلى الخروج وهو نداء الصريخ الذي صرخ بأبي جهل ومن معه بمكة بأن عير قريش " وفيها أبو سفيان " قد لقيها المسلمون ببدر وكان المنادي ضمضم بن عمرو الغفاري إذ جاء على بعيره فصرخ ببطن الوادي : يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد وأصحابه . فتجهز الناس سراعا وخرجوا إلى بدر .
فالمكان القريب هو بطن الوادي فإنه قريب من مكة .
والخروج : خروجهم لبدر وتعريف اليوم بالإضافة إلى الخروج لتهويل أمر ذلك الخروج الذي كان استئصال سادتهم عقبه . وتكون جملة ( إنا نحن نحيي ونميت ) وعيدا بأن الله يميت سادتهم وأنه يبقي من قدر إسلامه فيما بعد فهو يحييه إلى يوم أجله .
وكتب في المصحف ( المناد ) بدون ياء . وقرأها نافع وأبو عمرو وأبو جعفر بياء في الوصل وبدونها في الوقف وذلك جار على اعتبار أن العرب يعاملون المنقوص المعرف باللام معاملة المنكر وخاصة في الأسجاع والفواصل فاعتبروا عدم رسم الياء في آخر الكلمة مراعاة لحال الوقف كما هو غالب أحوال الرسم لأن الأسجاع مبنية على سكون الأعجاز . وقرأها عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر وخلف بحذف الياء وصلا ووقفا لأن العرب قد تعامل المنقوص المعرف معاملة المنكر . وقرأها ابن كثير ويعقوب بالياء وصلا ووقفا اعتبارا بأن رسم المصحف قد يخالف قياس الرسم فلا يخالف قياس اللفظ لأجله .
( يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير [ 44 ] ) إن جربت على أقوال المفسرين في تفسير الآية السابقة أفادت هذه الآية بيانا لجملة ( ذلك يوم الخروج ) أو بدل اشتمال منها مع ما في المعاد منها من تأكيد لمرادفه .
وإن جريت على ما ارتأيته في محمل الآية السابقة أفادت هذه الجملة استئنافا استدلالا على إمكان الحشر ووصف حال من أحواله وهو تشقق الأرض عنهم أي عن أجساد مثيلة لأجسادهم وعن الأجساد التي لم يلحقها الفناء .
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب ( تشقق ) بفتح التاء وتشديد الشين . وأصله تتشقق بتاءين فأدغمت التاء الثانية في الشين بعد قلبها شينا لتقارب مخرجيها . وقرأه أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي ( تشقق ) بتخفيف الشين على حذف تاء التفعل لاستثقال الجمع بين تاءين .
و ( سراعا ) حال من ضمير ( عنهم ) وهو جمع سريع أي سراعا في الخروج أو في المشي الذي يعقبه إلى محل الحساب .
والقول في إعراب ( تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر ) كالقول في إعراب قوله ( يوم ينادي المنادي من مكان قريب ) إلى ( ذلك يوم الخروج ) وكذلك القول في اختلاف اسم الإشارة مثله .
وتقدم المجرور في ( علينا ) للاختصاص أي هو يسير في جانب قدرتنا لا كما زعمه نفاة الحشر .
( نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد [ 45 ] ) استئناف بياني ناشئ عن قوله ( فاصبر على ما يقولون ) فهو إيغال في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتعريض بوعيدهم فالخبر مستعمل مجازا في وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله سيعاقب أعداءه .
وقوله ( وما أنت عليهم بجبار ) تطمين للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه غير مسؤول عن عدم اهتدائهم لأنه إنما بعث داعيا وهاديا وليس مبعوثا لإرغامهم على الإيمان والجبار مشتق من جبره على الأمر بمعنى أكرهه .
وفرع عليه أمره بالتذكير لأنه ناشئ عن نفي كونه جبارا عليهم وهذا كقوله تعالى ( فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر ) ولكن خص التذكير هنا بالمؤمنين لأنه أراد التذكير الذي ينفع المذكر . فالمعنى : فذكر بالقرآن فيتذكر من يخاف وعيد . وهذا كقوله ( إنما أنت منذر من يخشاها ) .
وكتب في المصحف ( وعيد ) بدون ياء المتكلم فقرأه الجمهور بدون ياء في الوصل والوقف على أنه من حذف التخفيف . وقرأه ورش عن نافع بإثبات الياء في الوصل . وقرأه يعقوب بإثبات الياء في الوصل والوقف .
بسم الله الرحمن الرحيم