والاستراحة تؤذن بالنصب والإعياء فلما فرغت الآية من تكذيب المشركين في أقوالهم عطفت إلى تكذيب الذين كانوا يحدثونهم بحديث الاستراحة فهذا تأويل موقع هذه الآية في هذا المحل مع ما حكى ابن عطية من الإجماع على أن هذه السورة كلها مكية وقد أشرنا إلى ذلك في الكلام على طليعة السورة فقول من قال نزلت في يهود المدينة تكلف إذ لم يكن اليهود مقصورين على المدينة من بلاد العرب وكانوا يترددون إلى مكة .
فقوله ( ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ) تكملة لما وصف من خلق السماوات في قوله ( أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها ) إلى قوله ( من كل زوج بهيج ) ليتوصل به إلى قوله ( وما مسنا من لغوب ) إبطالا لمقالة اليهود والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها عطف القصة على القصة وقعت معترضة بين الكلام السابق وبين ما فرع عنه من قوله ( فاصبر على ما يقولون ) .
والواو في ( وما مسنا من لغوب ) واو الحال لأن لمعنى الحال هنا موقعا عظيما من تقييد ذلك الخلق العظيم في تلك المدة القصيرة بأنه لا ينصب خالقه لأن الغرض من معظم هذه ا لسورة بيان إمكان البعث إذ أحاله المشركون بما يرجع إلى ضيق القدرة الإلهية عن إيقاعه فكانت هذه الآيات كلها مشتملة على إبراز معنى سعة القدرة الإلهية .
ومعنى ( وما مسنا من لغوب ) : ما أصابنا تعب . وحقيقة المس : اللمس أي وضع اليد على شيء وضعا غير شديد بخلاف الدفع واللطم . فعبر عن نفي أقل الإصابة بنفي المس لنفي أضعف أحوال الإصابة كما في قوله تعالى ( من قبل أن يتماسا ) فنفي قوة الإصابة وتمكنها أحرى .
واللغوب : الإعياء من الجري والعمل الشديد .
( فاصبر على ما يقولون ) تفريع على ما تقدم كله من قوله ( بل عجبوا أن جاءهم منذر ) الآيات ومناسبة وقعه هذا الموقع ما تضمنه قوله ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن ) الآية من التعريض بتسلية النبي صلى الله عليه وسلم أي فاصبر على ما يقول المشركون من التكذيب بما أخبرتهم من البعث وبالرسالة وقد جمع ذلك كله الموصول وهو ( ما يقولون ) .
وضمير ( يقولون ) عائد إلى المشركين الذين هم المقصود من هذه المواعظ والنذر ابتداء من قوله ( بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم ) .
( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب [ 39 ] ومن الليل فسبحه وإدبار السجود [ 40 ] ) عطف على ( فاصبر على ما يقولون ) فهو من تمام التفريع أي اصبر على أقوال أذاهم وسخريتهم . ولعل وجه هذا العطف أن المشركين كانوا يستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا قاموا إلى الصلاة مثل قصة إلقاء عقبة بن أبي معيط سلا الجزور على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم حين سجد في المسجد الحرام في حجر الكعبة فأقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله " الآية . وقال تعالى ( أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ) إلى قوله ( كلا لا تطعه واسجد واقترب ) .
فالمراد بالتسبيح : الصلاة وهو من أسماء الصلاة . قال ابن عطية : أجمع المتأملون على أن التسبيح هنا الصلاة . قلت : ولذلك صار فعل التسبيح منزلا منزلة اللازم لأنه في معنى : صل .
والباء في ( بحمد ربك ) يرجح كون المراد بالتسبيح الصلاة لأن الصلاة تقرأ في كل ركعة منها الفاتحة وهي حمد لله تعالى فالباء للملابسة .
واختلف المفسرون في المراد بالصلاة من قوله ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وإدبار السجود ) ففي صحيح مسلم عن جرير بن عبد الله : كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر فقال : " إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها " يعني بذلك العصر والفجر . ثم قرأ جرير " وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها " " كذا " . والقراءة ( الغروب ) .
وعن ابن عباس : قبل الغروب : الظهر والعصر . وعن قتادة : العصر .
وقوله ( ومن الليل فسبحه ) الجمهور على أن التسبيح فيه هو الصلاة وعن أبي الأحوض أنه قول ( سبحان الله ) فعلى أن التسبيح الصلاة قال ابن زيد : صلاة المغرب وصلاة العشاء .
A E