وقرأ الجمهور ( فتبينوا ) بفوقية فموحدة فتحتية فنون من التبيين وقرأ حمزة والكسائي وخلف فتثبتوا بفوقية فمثلثة فموحدة ففوقية من التثبت . والتبيين : تطلب البيان وهو ظهور الأمر والتثبت التحري وتطلب الثبات وهو الصدق .
ومآل القراءتين واحد وإن اختلف معناهما . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " التثبت من الله والعجلة من الشيطان " .
وموقع ( أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا ) الخ نصبا على نزع الخافض وهو لام التعليل محذوفة . ويجوز كونه منصوبا على المفعول لأجله .
والمعلل باللام المحذوفة أو المقدرة هو التثبت فمعنى تعليله بإصابة يقع إثرها الندم هو التثبت .
A E فمعنى تعليله بإصابة يقع آخرها الندم أن الإصابة علة تحمل على التثبت للتفادي منها فلذلك كان معنى الكلام على انتفاء حصول هذه الإضافة لأن العلة إذا صلحت لإثبات الكف عن فعل تصليح للإتيان بضده لتلازم الضد . وتقدم نظير هذا التعليل في قوله ( أن تحبط أعمالكم ) في هذه السورة .
وهذا التحذير من جراء قبول خبر الكاذب يدل على تحذير من يخطر له اختلاق خبر مما يترتب على خبره الكاذب من إصابة الناس . وهذا بدلالة فحوى الخطاب .
والجهالة : تطلق بمعنى ضد العلم وتطلق بمعنى ضد الحلم مثل قولهم : جهل كجهل السيف فإن كان الأول فالباء للملابسة وهو ظرف مستقر في موضع الحال أي متلبسين أنتم بعدم العلم بالواقع لتصديقكم الكاذب ومتعلق ( تصيبوا ) على هذا الوجه محذوف دل عليه السياق سابقا ولاحقا أي أن تصيبوهم بضر وأكثر إطلاق الإصابة على إيصال الضر وعلى الإطلاق الثاني الباء للتعدية أي أن تصيبوا قوما بفعل من أثر الجهالة أي بفعل من الشدة والإضرار .
ومعنى ( فتصبحوا ) فتصيروا لأن بعض أخوات " كان " تستعمل بمعنى الصيرورة . والندم : الأسف على فعل صدر . والمراد به هنا الندم الديني أي الندم على التورط في الذنب للتساهل وترك تطلب وجوه الحق .
وهذا الخطاب الذي اشتمل عليه قوله ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ) موجه ابتداء للمؤمنين المخبرين " بفتح الباء " كل بحسب أثره بما يبلغ إليه من الأخبار على اختلاف أغراض المخبرين " بكسر الباء " .
ولكن هذا الخطاب لا يترك المخبرين " بكسر الباء " بمعزل عن المطالبة بهذا التبين فيما يتحملونه من الأخبار وبتوخي سوء العاقبة فيما يختلفونه من المختلفات ولكن هذا تبين يخالف تبين الآخر وتثبته فهذا تثبت من المتلقي بالتمحيص لما يتلقاه من حكاية أو يطرق سمعه من الكلام والآخر تمحيص وتمييز لحال المخبر .
واعلم أن هذه الآية تتخرج منها أربع مسائل من الفقه وأصوله : المسألة الأولى : وجوب البحث عن عدالة من كان مجهول الحال في قبول الشهادة أو الرواية عند القاضي وعند الرواة . وهذا صريح الآية وقد أشرنا إليه آنفا .
المسألة الثانية : أنها دالة على قبول الواحد الذي انتفت عنه تهمة الكذب في شهادته أو روايته وهو الموسوم بالعدالة وهذا من مدلول مفهوم الشرط في قوله ( إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ) وهي مسألة أصولية في العمل بخبر الواحد .
المسألة الثالثة : قيل إن الآية تدل على أن الأصل في المجهول عدم العدالة أي عدم ظن عدالته فيجب الكشف عن مجهول الحال فلا يعمل بشهادته ولا بروايته حتى يبحث عنه وتثبيت عدالته .
وهذا قول جمهور الفقهاء والمحدثين وهو قول مالك . وقال بعضهم : الأصل في الناس العدالة وينسب إلى أبي حنيفة فيقبل عنده مجهول الباطن ويعبر عنه بمستور الحال . أما المجهول باطنه وظاهره معا فحكي الاتفاق على عدم قبول خبره وكأنهم نظروا إلى معنى كلمة الأصل العقلي دون الشرعي وقد قيل : إن عمر بن الخطاب كان قال " المسلمون عدول بعضهم عن بعض " وأنه لما بلغه ظهور شهادة الزور رجع فقال " لا يؤسر أحد في الإسلام بغير العدول " .
ويستثنى من هذا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإن الأصل أنهم عدول حتى يثبت خلاف ذلك بوجه لا خلاف فيه في الدين ولا يختلف فيه اجتهاد المجتهدين . وإنما تفيد الآية هذا الأصل إذا حمل معنى الفاسق على ما يشمل المتهم بالفسق