وإيثار صيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك أي تراهم كلما شئت أن تراهم ركعا سجدا . وهذا ثناء عليهم بشدة إقبالهم على أفضل الأعمال المزكية للنفس وهي الصلوات مفروضها ونافلتها وأنهم يتطلبون بذلك رضى الله ورضوانه . وفي سوق هذا في مساق الثناء إيماء إلى أن الله حقق لهم ما يبتغونه .
والسيما : العلامة وتقدم عند قوله تعالى ( تعرفهم بسيماهم ) في البقرة وهذه سيما خاصة هي من أثر السجود .
واختلف في المراد من السيما التي وصفت بأنها " من أثر السجود " على ثلاثة أنحاء الأول : أنها أثر محسوس للسجود الثاني أنها من الأثر النفسي للسجود الثالث أنها أثر يظهر في وجوههم يوم القيامة .
A E فبالأول فسر مالك بن أنس وعكرمة وأبو العالية قال مالك : السيما هي ما يتعلق بجباههم من الأرض عند السجود مثل ما تعلق بجبهة النبي صلى الله عليه وسلم من أثر الطين والماء لما وكف المسجد صبيحة إحدى وعشرين من رمضان . وقال السعيد وعكرمة : الأثر كالغدة يكون في جبهة الرجل .
وليس المراد أنهم يتكلفون حدوث ذلك في وجوههم ولكنه يحصل من غير قصد بسبب تكرر مباشرة الجبهة للأرض وبشرات الناس مختلفة في التأثر بذلك فلا حرج على من حصل له ذلك إذا لم يتكلفه ولم يقصد به رياء .
وقال أبو العالية : يسجدون على التراب لا على الأثواب .
والى النحو الثاني فسر الأعمش والحسن وعطاء والربيع ومجاهد عن ابن عباس وابن جزء والضحاك . فقال الأعمش : من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار . وقريب منه عن عطاء والربيع بن سليمان . وقال ابن عباس : هو حسن السمت .
وقال مجاهد : هو نور من الخشوع والتواضع . وقال الحسن والضحاك : بياض وصفرة وتهيج يعتري الوجوه من السهر .
والى النحو الثالث فسر سعيد بن جبير أيضا والزهري وابن عباس في رواية العوفي والحسن أيضا وخالد الحنفي وعطية وشهر بن حوشب : أنها سيما تكون لهم يوم القيامة وقالوا : هي بياض يكون في الوجه يوم القيامة كالقمر ليلة البدر يجعله الله كرامة لهم .
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله في قوله تعالى ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) : النور يوم القيامة قيل وسنده حسن . وهو لا يقتضي تعطيل بقية الاحتمالات إذ كل ذلك من السيما المحمودة ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أعلاها .
وضمائر الغيبة في قوله ( تراهم ويبتغون وسيماهم في وجوههم ) عائدة إلى ( الذين معه ) على الوجه الأول والى كل من ( محمد رسول الله والذين معه ) على الوجه الثاني .
( ذلك مثلهم في التوراة ) الإشارة بذلك إلى المذكور من صفات الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم لأن السابق في الذكر بمنزلة الحاضر فيشار إليه بهذا الاعتبار فاسم الإشارة مبتدأ و ( مثلهم ) خبره .
والمثل يطلق على الحالة العجيبة ويطلق على النظير أي المشابه فإن كان هنا محمولا على الحالة العجيبة فالمعنى : أن الصفات المذكورة هي حالهم الموصوف في التوراة . وقوله ( في التوراة ) متعلق ب ( مثلهم ) أو حال منه . فيحتمل أن في التوراة وصف قوم سيأتون ووصفوا بهذه الصفات فبين الله بهذه الآية أن الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم هم المقصود بتلك الصفة العجيبة التي في التوراة أي أن التوراة قد جاءت فيها بشارة بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم ووصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . والذي وقفنا عليه في التوراة مما يصلح لتطبيق هذه الآية هو البشارة الرمزية التي في الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر التثنية من قول موسى عليه السلام " جاء الرب من سينا وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران وأتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم فأحب الشعب جميع قديسيه وهم جالسون عند قدمك يتقبلون من أقوالك " فإن جبل فاران هو حيال الحجاز .
وقوله " فأحب الشعب جميع قديسيه " يشير إليه قوله ( رحماء بينهم ) وقد تقدم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ما ينطبق على هذا من سورة الفتح . وقوله " قديسيه " يفيد معنى ( تراهم ركعا سجدا ) ومعنى ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) . وقوله في التوراة " جالسون عند قدمك " يفيد معنى قوله تعالى ( يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) .
ويكون قوله تعالى ( ذلك ) إشارة إلى ما ذكر من الوصف