فإذا قلنا إن يوم الدين في قوله تعالى ( ملك يوم الدين ) هو يوم الجزاء وإذا قلنا إن قوله تعالى ( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) مع قوله ( وفصاله في عامين ) يؤخذ منه أن أقل الحمل ستة أشهر عند من قال ذلك لم يكن شيء من ذلك قضية بل الأول تعريف لفظي والثاني من دلالة الالتزام ولكنهم عدوا تفسير ألفاظ القرآن علما مستقلا أراهم فعلوا ذلك لواحد من وجوه ستة : A E الأول : أن مباحثه لكونها تؤدي إلى استنباط علوم كثيرة وقواعد كلية نزلت منزلة القواعد الكلية لأنها مبدأ لها ومنشأ تنزيلا للشيء منزلة ما هو شديد الشبه به بقاعدة ما قارب الشيء يعطي حكمه ولا شك أن ما تستخرج منه القواعد الكلية والعلوم أجدر بأن يعد علما من عد فروعه علما وهم قد عدوا تدوين الشعر علما لما فى حفظه من استخراج نكت بلاغية وقواعد لغوية .
والثاني أن نقول : إن اشتراط كون مسائل العلم قضايا كلية يبرهن عليها في العلم خاص بالعلوم المعقولة لأن هذا اشتراط ذكره الحكماء في تقسيم العلوم أما العلوم الشرعية والأدبية فلا يشترط فيها ذلك بل يكفي أن تكون مباحثها مفيدة كمالا علميا لمزاولها والتفسير أعلاها في ذلك كيف وهو بيان مراد الله تعالى من كلامه وهم قد عدوا البديع علما والعروض علما وما هي إلا تعاريف لألقاب اصطلاحية .
والثالث أن نقول : التعاريف اللفظية تصديقات على رأي بعض المحققين فهي تؤول إلى قضايا وتفرع المعاني الجمة عنها نزلها منزلة الكلية والاحتجاج عليها بشعر العرب وغيره يقوم مقام البرهان على المسألة وهذا الوجه يشترك مع الوجه الأول في تنزيل مباحث التفسير منزلة المسائل إلا أن وجه التنزيل في الأول راجع إلى ما يتفرع عنها وهنا راجع إلى ذاتها مع أن التنزيل في الوجه الأول في جميع الشروط الثلاثة وهنا في شرطين لأن كونها قضايا إنما يجيء على مذهب بعض المنطقيين .
الرابع أن نقول : إن علم التفسير لا يخلو من قواعد كلية في أثنائه مثل تقرير قواعد النسخ عند تفسير ( ما ننسخ من آية ) وتقرير قواعد التأويل عند تقرير ( وما يعلم تأويله ) وقواعد المحكم عند تقرير ( منه آيات محكمات ) فسمي مجموع ذلك وما معه علما تغليبا وقد اعتنى العلماء بإحصاء كليات تتعلق بالقرآن وجمعها ابن فارس وذكرها عنه في الإتقان وعنى بها أبو البقاء الكفوي في كلياته فلا بدع أن تزاد تلك في وجوه شبه مسائل التفسير بالقواعد الكلية .
الخامس : أن حق التفسير أن يشتمل على بيان أصول التشريع وكلياته فكان بذلك حقيقا بأن يسمى علما ولكن المفسرين ابتدأوا بتقصي معاني القرآن فطفحت عليهم وحسرت دون كثرتها قواهم فانصرفوا عن الاشتغال بانتزاع كليات التشريع إلا في مواضع قليلة .
السادس " وهو الفصل " : أن التفسير كان أول ما اشتغل به علماء الإسلام قبل الاشتغال بتدوين بقية العلوم وفيه كثرت مناظراتهم . وكان يحصل من مزاولته والدربة فيه لصاحبه ملكة يدرك بها أساليب القرآن ودقائق نظمه فكان بذلك مفيدا علوما كلية لها مزيد اختصاص بالقرآن المجيد فمن أجل ذلك سمي علما .
ويظهر أن هذا العلم إن أخذ من حيث إنه بيان وتفسير لمراد الله من كلامه كان معدودا من أصول العلوم الشرعية وهي التي ذكرها الغزالي في الضرب الأول من العلوم الشرعية المحمودة من كتاب الإحياء لأنه عد أولها الكتاب والسنة ولا شك أنه لا يعنى بعلم الكتاب حفظ ألفاظه بل فهم معانيها وبذلك صح أن يعد رأس العلوم الإسلامية كما وصفه البيضاوي بذلك وإن أخذ من حيث ما فيه من بيان مكي ومدني وناسخ ومنسوخ ومن قواعد الاستنباط التي تذكر أيضا في علم أصول الفقه من عموم وخصوص وغيرهما كان معدودا في متممات العلوم الشرعية المذكورة في الضرب الرابع من كلام الغزالي وبذلك الاعتبار عد فيها إذ قال " الضرب الرابع المتممات وذلك في علم القرآن ينقسم إلى ما يتعلق باللفظ كعلم القراءات وإلى ما يتعلق بالمعنى كالتفسير فإن اعتماده أيضا على النقل وإلى ما يتعلق بأحكامه كالناسخ والمنسوخ والعام والخاص وكيفية استعمال البعض منه مع البعض وهو العلم الذي يسمى أصول الفقه " وهو بهذا الاعتبار لا يكون رئيس العلوم الشرعية .
A E