وابتديء في التفصيل بوصف حال المؤمنين مع أن المقام للحديث عن المبطلين في قوله ( يومئذ يخسر المبطلون ) تنويها بالمؤمنين وتعجيلا لمسرتهم وتعجيلا لمساءة المبطلين لأن وصف حال المؤمنين يؤذن بمخالفة حال الآخرين لحالهم .
والتعبير ب ( يدخلهم في رحمته ) شامل لما تتصوره النفس من أنواع الكرامة والنعيم إذ جعلت رحمة الله بمنزلة المكان يدخلونه .
وافتتح بيان حال الذين كفروا بما يقال لهم من التوبيخ والتقرير من قبل الله تعالى فقوله ( أفلم تكن آياتي ) مقول قول محذوف لظهور أن ذلك خطاب صادر من متكلم من جانب الله تعالى فيقدر فيقال لهم على طريقة قوله بعد ( وقيل اليوم ننساكم ) . والفاء جواب ( أما ) أو فيقال لهم ( ألم تكن آياتي تتلى عليكم ) فلما حذف فعل القول قدم حرف الاستفهام على فاء الجواب اعتدادا باستحقاقه التصدير كما يقدم الاستفهام على حروف العطف . ولم يتعد بالمحذوف لأن التقديم لدفع الكراهة اللفظية من تأخر الاستفهام عن الحرف وهي موجودة بعد حذف ما حذف .
والاستفهام توبيخ وتقرير . والمراد بالآيات القرآن أي فاستكبرتم على الأخذ بها ولم تقتصروا على الاستكبار بل كنتم قوما مجرمين أي لم تفدكم مواعظ القرآن صلاحا لأنفسكم بما سمعتم منه .
A E وإقحام ( قوما ) دون الاقتصار على : وكنتم مجرمين للدلالة على أن الإجرام صار خلقا لهم وخالط نفوسهم حتى صار من مقومات قوميتهم وقد قدمناه غير مرة .
وجملة ( وإذا قيل إن وعد الله حق ) إلخ عطف على جملة ( فاستكبرتم ) . والتقدير : وقلتم ما ندري ما الساعة إذا قيل لكم إن الساعة لا ريب فيها .
وهذان القولان مما تكرر في القرآن بلفظه وبمعناه فهو تخصيص لبعض آيات القرآن بالذكر بعد التعميم في قوله ( أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم ) .
والتعريف في ( الساعة ) للعهد وهي ساعة البعث أي زمان البعث كما عبر عنه باليوم .
وقرأ الجمهور ( والساعة لا ريب فيها ) برفع ( والساعة ) عطف على جملة ( إن وعد الله حق ) . وقرأه حمزة وحده بنصب ( والساعة ) عطفا على ( إن وعد الله ) من العطف على معمولي عامل واحد . ومعنى ( ما ندري ما الساعة ) ما نعلم حقيقة الساعة ونفي العلم بحقيقتها كناية عن جحد وقوع الساعة أي علمنا أنها لا وقوع لها استنادا للتخيلات التي ظنوها أدلة كقولهم ( أإذا كنا عظاما ورفاتا إنا لمبعوثون خلقا جديدا ) .
وقولهم ( إن نظن إلا ظنا ) ظاهر في أنه متصل بما قبله من قولهم ( ما ندري ما الساعة ) ومبين بما بعده من قوله ( وما نحن بمستيقنين ) وموقعه ومعناه مشكل وفي نظمه إشكال أيضا .
فأما الإشكال من جهة موقعه ومعناه فلأن القائلين موقنون بانتفاء وقوع الساعة لما حكي عنهم آنفا من قولهم ( إن هي إلا حياتنا الدنيا ) إلخ فلا يحق عليهم أنهم يظنون وقوع الساعة بوجه من الوجوه ولو احتمالا .
ولا يستقيم أن يطلق الظن هنا على الإيقان بعدم حصوله فيعضل معنى قولهم ( إن نظن إلا ظنا ) فتأوله الفخر فقال : إن القوم كانوا فريقين وأن الذين قالوا ( إن نظن إلا ظنا ) فريق كانوا قاطعين بنفي البعث والقيامة وهم الذين ذكرهم الله في الآية المتقدمة بقوله ( وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا ) . ومنهم من كان شاكا متحيرا فيه وهم الذين أراد الله بهذه الآية اه .
وأقول : هذا لا يستقيم لأنه لو سلم أن فريقا من المشركين كانوا يشكون في وقوع الساعة ولا يجزمون بانتفائه فإن جمهرة المشركين نافون لوقوعها فلا يناسب مقام التوبيخ تخصيصه بالذين كانوا مترددين في ذلك . والوجه عندي في تأويله : إما يكون هذا حكاية لاستهزائهم بخبر البعث فإذا قيل لهم ( الساعة لا ريب فيها ) قالوا استهزاء ( ما نظن إلا ظنا ) ويدل عليه قوله عقبه ( وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) .
وتأوله ابن عطية بأن معناه ( إن نظن بعد قبول خبركم إلا ظنا وليس يعطينا يقينا ) اه أي فهو أبطالهم لخصوص قول المسلمين : الساعة لا ريب فيها .
وأما إشكاله من جهة النظم فمرجع الإشكال إلى استثناء الظن من نفسه في قوله ( إن نظن إلا ظنا ) فإن الاستثناء المفرغ لا يصح أن يكون مفرغا للمفعول المطلق لانتفاء فائدة التفريع . والخلاص من هذا ما ذهب إليه ابن هشام في مغني اللبيب أن مصحح الاستثناء الظن من نفسه أن المستثنى هو الظن الموصوف بما دل عليه تنكيره من التحقير المشعر به التنوين على حد قول الأعشى :