بعد أن أمعن في إبطال أن يكون إله غير الله بما سيق من التفصيلات جاء هنا بكلمة جامعة لإبطال زعمهم إلهية غير الله بقوله ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) أي سألتهم سؤال تقرير عمن خلقهم فإنهم يقرون بأن الله خلقهم وهذا معلوم من حال المشركين كقول ضمام بن ثعلبة للنبي صلى الله عليه وسلم " أسألك بربك ورب من قبلك الله أرسلك ) ولأجل ذلك أكد إنهم يقرون لله بأنه الخالق فقال ( ليقولن الله ) وذلك كاف في سفاهة رأيهم إذ كيف يكون إلها من لم يخلق قال تعالى ( أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ) .
والخطاب في قوله ( سألتهم ) للنبي صلى الله عليه وسلم . ويجوز أن يكون لغير معين أي إن سألهم من يتأتى منه أن يسأل .
وفرع على هذا التقرير والإقرار الانكار والتعجيب من انصرافهم من عبادة الله إلى عبادة آلهة أخرى بقوله ( فأنى يؤفكون ) .
و ( أنى ) اسم استفهام عن المكان فمحله نصب على الظرفية أي إلى أي مكان يصرفون .
و ( يؤفكون ) يصرفون : يقال : أفكه عن كذا يأفكه من باب ضرب إذا صرفه عنه وبني للمجهول إذ لم يصرفهم صارف ولكن صرفوا أنفسهم عن عبادة خالقهم فقوله ( فأنى يؤفكون ) هو كقول العرب : أين يذهب بك أي أين تذهب بنفسك إذ لا يريدون أن ذاهبا ذهب به يسألونه عنه ولكن المراد : أنه لم يذهب به أحد وإنما ذهب بنفسه .
( وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون [ 88 ] ) القيل مصدر قال والأظهر أنه اسم مراد به المفعول أي المقول مثل الذبح وأصله : قول بكسر القاف وسكون الواو . والمعنى : ومقوله .
والضمير المضاف إليه ( قيل ) ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم بقرينة سياق الاستدلال والحجاج من قوله ( قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ) وبقرينة قوله ( يا رب ) وبقرينة أنه قال ( إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ) وبقرينة إجابته بقوله ( فاصفح عنهم وقل سلام ) والأولى أن يكون ضمير الغائب التفاتا عن الخطاب في قوله ( ولئن سألتهم من خلقهم ) فإنه بعد ما مضى من المحاجة ومن حكاية إقرارهم بأن الله الذي خلقهم ثم إنهم لم يتزحزحوا عن الكفر قيد أنملة حصل اليأس للرسول من إيمانهم فقال ( يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ) التجاء إلى الله فيهم وتفويضا إليه ليجري حكمه عليهم .
وهذا من استعمال الخبر في التحسر أو الشكاية وهو خبر بمعنى الإنشاء مثل قوله تعالى ( وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ) أي لم يعملوا به فلم يؤمنوا ويؤيد هذا تفريع ( فاصفح عنهم ) ففي ضمير الغيبة التفات لأن الكلام كان جاريا على أسلوب الخطاب من قوله ( ولئن سألتهم من خلقهم ) فمقتضى الظاهر : وقولك : يا رب إلخ . ويحسن هذا الالتفات أنه حكاية لشيء في نفس الرسول فجعل الرسول بمنزلة الغائب لإظهار أن الله لا يهمل نداءه وشكواه على حد قوله تعالى ( عبس وتولى ) . وإضافة القيل إلى ضمير الرسول مشعرة بأنه تكرر منه وعرف به عند ربه أي عرف بهذا وبما في معناه من نحو ( يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرءان مهجورا ) وقوله ( حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ) .
وقرأ الجمهور ( وقيله ) بنصب اللام على اعتبار أنه مصدر نصب على أنه مفعول مطلق بدل من فعله .
والتقدير : وقال : الرسول قيله والجملة معطوفة على جملة ( ولئن سألتهم من خلقهم ) أو على جملة ( فأنى يؤفكون ) أي وقال الرسول حينئذ يا رب إلخ . ونظيره قول كعب بن زهير : .
تمشي الوشاة جنابيها وقيلهم ... إنك يا بن أبي سلمى لمقتول على رواية ( قيلهم ) ونصبه أي ويقولون : قيلهم وهي رواية الأصمعي .
ويجوز أن يكون النصب على المفعول به لقوله ( لا نسمع ) والتقدير : بلى ونعلم قيله وهذا اختيار الفراء والأخفش وقال المبرد والزجاج : هو منصوب بفعل مقدر دل عليه قوله ( وعنده علم الساعة ) أي ويعلم قيله .
وقرأ عاصم وحمزة بجر لام ( قيله ) ويجوز في جره وجهان : أحدهما : أن يكون عطفا على ( الساعة ) في قوله ( وعنده علم الساعة ) أي وعلم قيل الرسول : يا رب وهو على هذا وعد للرسول بالنصر وتهديد لهم بالانتقام .
وثانيهما : أن تكون الواو للقسم ويكون جواب القسم جملة ( إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ) على أن الله أقسم بقول الرسول : يا رب تعظيما للرسول ولقيله الذي هو تفويض للرب وثقة به