وأشارت إليه سورة النجم بقوله تعالى ( فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ) . والقول بأنه سمع كلام الله ليلة أسري به إلى السماء مروي عن علي ابن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وجعفر بن محمد الصادق والأشعري والواسطي وهو الظاهر لأن فضل محمد صلى الله عليه وسلم على جميع المرسلين يستلزم أن يعطيه الله من أفضل ما أعطاه رسله عليهم السلام جميعا .
النوع الثالث : أن يرسل الله الملك إلى النبي فيبلغ إليه كلاما يسمعه النبي ويعيه وهذا هو غالب ما يوجه إلى الأنبياء من كلام الله تعالى قال تعالى في ذكر زكريا ( فنادى الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى ) وقال في إبراهيم ( وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا ) وهذا الكلام يأتي بكيفية وصفها النبي صلى الله عليه وسلم للحارث ابن هشام وقد سأل رسول الله " كيف يأتيك الوحي ؟ فقال : أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده عبي فيفصم عني وقد وعيت عنه " أي عن جبريل " ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول " .
فالرسول في قوله تعالى ( أو يرسل رسولا ) : هو الملك جبريل أو غيره وقوله ( فيوحي بإذنه ما يشاء ) سمى هذا الكلام وحيا على مراعاة الإطلاق القرآني الغالب كما تقدم نحو قوله " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى " وهو غير المراد من قوله ( إلا وحيا ) بقرينة التقسيم والمقابلة .
ومن لطائف نسج هذه الآية ترتيب ما دل على تكليم الله الرسل بدلالات فجيء بالمصدر أولا في قوله ( إلا وحيا ) وجيء بما يشبه الجملة ثانيا وهو قوله ( من وراء حجاب ) وجيء بالجملة الفعلية ثالثا بقوله ( ويرسل رسولا ) .
وقرأ نافع ( أو يرسل ) برفع ( يرسل ) على الخبرية والتقدير : أو هو مرسل رسولا . وقرأ ( فيوحي ) بسكون الياء بعد كسرة الحاء .
وقرأ الباقون ( أو يرسل ) بنصب الفعل على تقدير ( أن ) محذوفة دل عليها العطف على المصدر فصار الفعل المعطوف في معنى المصدر فاحتاج إلى تقدير حرف السبك . وقرأوا ( فيوحي ) بفتحة على الياء عطفا على ( يرسل ) .
وما صدق ( ما يشاء ) كلام أي فيوحي كلاما يشاؤه الله فكانت هذه الجملة في معنى الصفة ل ( كلاما ) المستثنى المحذوف والرابط هو ( ما يشاء ) لأنه في معنى : كلاما فهو كربط الجملة بإعادة لفظ ما هي له أو بمرادفه نحو ( الحاقة ما الحاقة ) . والتقدير : أو إلا كلاما موصوفا بأن الله يرسل رسولا فيوحي بإذنه كلاما يشاؤه فإن الإرسال نوع من الكلام المراد في هذه الآية .
والآية صريحة في أن هذه الأنواع الثلاثة أنواع لكلام الله الذي يخاطب به عباده . وذكر النوعين : الأول والثالث صريح في أن إضافة الكلام المنوع إليها إلى الله أو إسناده إليه حيثما وقع في ألفاظ الشريعة نحو قوله تعالى ( حتى يسمع كلام الله ) وقوله ( قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي ) وقوله ( وكلم الله موسى تكليما ) يدل على أنه كلام له خصوصية هي أنه أوجده الله إيجادا بخرق العادة ليكون بذلك دليلا على أن مدلول ألفاظه مراد لله تعالى ومقصود له كما سمي الروح الذي تكون به عيسى روح الله لأنه تكون على سبيل خرق العادة فالله خلق الكلام الذي يدل على مراده خلقا غير جار على سنة الله في تكوين الكلام ليعلم الناس أن الله أراد إعلامهم بأنه أراد مدلولات ذلك الكلام بآية أنه خرق فيه عادة إيجاد الكلام فكان إيجادا غير متولد من علل وأسباب عادية فهو كإيجاد السماوات والأرض وإيجاد آدم في أنه غير متولد من علل وأسباب فطرية .
A E