السادسة : إتباع ( يئوس ) ب ( قنوط ) الذي هو تجاوز إحساس اليأس إلى ظاهر البدن بالانكسار وهو من شدة يأسه فحصلت مبالغتان في التعبير عن يأسه بأنه اعتقاد في ضميره وانفعال في سحناته .
A E فالمشرك يتأصل فيه هذا الخلق ويتزايد باستمرار الزمان : والمؤمن لا تزال تربية الإيمان تكفه عن هذا الخلق حتى يزول منه أو يكاد .
ثم بينت الآية خلقا آخر في الإنسان وهو أنه إذا زال عنه كربه وعادت إليه النعمة نسي ما كان فيه من الشدة ولم يتفكر في لطف الله به فبطر النعمة وقال : قد استرجعت خيراتي بحيلتي وتدبيري وهذا الخير حق لي حصلت عليه ثم إذا كان من أهل الشرك وهم المتحدث عنهم تراه إذا سمع إنذار النبي A بقيام الساعة أو هجس في نفسه هاجس عاقبة هذه الحياة قال لمن يدعوه إلى العمل ليوم الحساب أو قال في نفسه ( ما أظن الساعة قائمة ) ولئن فرضت قيام الساعة على احتمال ضعيف فإني سأجد عند الله المعاملة بالحسنى لأني من أهل الثراء والرفاهية في الدنيا فكذلك سأكون يوم القيامة . وهذا من سوء اعتقادهم أن يحسيوا أحوال الدنيا مقارنة لهم في الآخرة كما حكى الله تعالى عن العاصي بن وائل حين اقتضاه خباب بن الأرث مالا له عنده من أجر صناعة سيف فقال له : حتى تكفر بمحمد ؟ فقال خباب : لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ويبعثك فقال : أو إني لميت فمبعوث ؟ قال : نعم . فقال : لئن بعثني الله فسيكون لي مالي فأقضيك فأنزل الله تعالى ( أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا ) الآيات في سورة مريم .
ولعل قوله ( ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ) إنما هو على سبيل الاستهزاء كما في مقاله العاصي بن وائل .
وذكر إنكار البعث هنا إدماج بذكر أحوال الإنسان المشترك في عموم أحوال الإنسان .
وجيء في حكاية قوله ( ولئن رجعت ) بحرف ( إن ) الشرطية التي يغلب وقوعها في الشرط المشكوك وقوعه لأنه جعل رجوعه إلى الله أمرا مفروضا ضعيف الاحتمال .
وأما دخول اللام الموطئة للقسم عليه فمورد التحقيق بالقسم هو حصول الجواب لو حصل الشرط .
وكذلك التأكيد ب ( إن ) ولام الابتداء مورده هو جواب الشرط وكذلك تقديم ( لي ) و ( عنده ) على اسم ( إن ) هو لتقوي ترتب الجواب على الشرط .
والحسنى : صفة لموصوف محذوف أي الحالة الحسنى أو المعاملة الحسنى . والأظهر أن الحسنى صارت اسما للإحسان الكثير أخذا من صيغة التفضيل .
واعلم أن الإنسان متفاوتة أفراده في هذا الخلق المعزو إليه هنا على تفاوت أفراده في الغرور ولما كان أكثر الناس يومئذ المشركين كان هذا الخلق فاشيا فيهم يقتضيه دين الشرك . ولا نظر في الآية لمن كان يومئذ من المسلمين لأنهم النادر على أن المسلم قد يخامره بعض هذا الخلق وترتسم فيه شيات منه ولكن إيمانه يصرفه عنه انصرافا بقدر قوة إيمانه ومعلوم أنه لا يبلغ به إلى الحد الذي يقول ( وما أظن الساعة قائمة ) ولكنه قد تجري أعمال بعض المسلمين على صورة أعمال من لا يظن أن الساعة قائمة مثل أولئك الذين يأتون السيئات ثم يقولون : إن الله غفور رحيم والله غني عن عذابنا وإذا ذكر لهم يوم الجزاء قالوا : ما ثم إلا الخير ونحو ذلك فجعل الله في هذه الآية مذمة للمشركين وموعظة للمؤمنين كمدا للأولين وانتشالا للآخرين .
( فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ [ 50 ] ) تفريع على جملة ( ويوم يناديهم أين شركائي ) وما اتصل بها أي فلنعلمنهم بما عملوا علنا يعلمون به أنا لا يخفى علينا شيء مما عملوه وتقريعا لهم .
وقول ( الذين كفروا ) إظهار في مقام الإضمار ومقتضى الظاهر أن يقال : ولننبئنهم بما عملوا فعل إلى الموصول وصلته لما تؤذن به الصلة من علة استحقاقهم الإذاقة بما عملوا وإذاقة العذاب . وقوله ( ولنذيقنهم من عذاب غليظ ) هو المقصود من التفريع .
والغليظ حقيقته : الصلب قال تعالى ( فاستغلظ فاستوى على سوقه ) وهو هنا مستعار للقوي في نوعه أي عذاب شديد الإيلام والتعذيب كما استعير للقساوة في المعاملة في قوله ( واغلظ عليهم ) وقوله ( وليجدوا فيكم غلظة )