والإسناد إلى القرآن على هذا الوجه في معاد الضمير بأنه عليهم عمى من الإسناد المجازي لأن عنادهم في قبوله كان سببا لضلالهم فكان القرآن سبب سبب كقوله تعالى ( وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) .
ويجوز أن يكون ضمير ( وهو ) ضمير شأن تنبيها على فظاعة ضلالهم .
وجملة ( عليهم عمى ) خبر ضمير الشأن أي وأعظم من الوقر أن عليهم عمى أي على أبصارهم عمى كقوله ( وعلى أبصارهم غشاوة ) .
وإنما علق العمى بالكون على ذواتهم لأنه لما كان عمى مجازيا تعين أن مصيبته علة أنفسهم كلها لا على أبصارهم خاصة البصائر أشد ضرا من عمى الأبصار كقوله تعالى ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) .
وجملة ( أولئك ينادون من مكان بعيد ) خبر ثالث عن ( الذين لا يؤمنون ) . والكلام تمثيل لحال إعراضهم عن الدعوة عند سماعها بحال من ينادى من مكان بعيد لا يبلغ إليه في مثله صوت المنادي على نحو قوله تعالى ( ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع ) كما تقدم في سورة البقرة . وتقول العرب لمن لا يفهم : أنت تنادى من مكان بعيد .
والإشارة ب ( أولئك ) إلى الذين لا يؤمنون ) لقصد التنبيه على أن المشار إليهم بعد تلك الوصاف أحرياء بما سيذكر بعدها من الحكم من أجلها نظير ( أولئك على هدى من ربهم ) .
ويتعلق ( من مكان بعيد ) ب ( ينادون ) . وإذا كان النداء من مكان بعيد كان المنادى " بالفتح " في مكان بعيد لا محالة كما تقدم في تعلق ( من لأرض ) بقوله ( ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض ) أي دعاكم من مكانكم في الأرض وبذلك يجوز أن يكون ( من مكان بعيد ) ظرفا مستقرا في موضع الحال من ضمير ( ينادون ) وذلك غير متأت في قوله ( إذا دعاكم دعوة من الأرض ) .
( ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ) اعتراض بتسلية للنبي A على تكذيب المشركين وكفرهم بالقرآن بأنه ليس بأوحد في ذلك فقد أوتي موسى فاختلف الذين دعاهم في ذلك فمنهم من آمن به ومنهم من كفر .
والمقصود الاعتبار بالاختلاف في التوراة فإنه أشد من الاختلاف في القرآن فالاختلاف في التوراة كان على نوعين : اختلاف فيها بين مؤمن بها وكافر فقد كفر بدعوة موسى فرعون وقومه وبعض بني إسرائيل مثل قارون ومثل الذين عبدوا العجل في مغيب موسى للمناجاة واختلاف بين المؤمنين بها اختلافا عطلوا به بعض أحكامها كما قال تعالى ( ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ) وكلا الاختلافين موضع عبرة وأسوة لاختلاف المشركين في القرآن . وهذا ما عصم الله القرآن من مثله إذ قال ( وإنا له لحافظون ) فالتسلية للرسول A بهذا أوقع وهذا ناظر إلى قوله آنفا ( ما بقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ) على الوجه الثاني من معنييه بذكر فرد من أفراد ذلك العموم وهو الأعظم الأهم .
( ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب [ 45 ] ) هذا متعلق بالذين كذبوا بالقرآن من العرب لأن قوله ( لقضي بينهم ) يقتضي أن اله أخر القضاء بينهم وبين المؤمنين إلى أجل اقتضته حكمته فأما قوم موسى فقد قضى بينهم باستئصال قوم فرعون وبتمثيل الآشوريين باليهود بعد موسى وبخراب بيت المقدس وزوال ملك إسرائيل آخرا . وهذا الكلام داخل في إتمام التسلية للرسول A والمؤمنين في استبطاء النصر .
والكلمة هي كلمة الإمهال إلى يوم القيامة بالنسبة لبعض المكذبين والإمهال إلى يوم بدر بالنسبة لمن صرعوا ببدر .
والتعبير عن الجلالة بلفظ ( ربك ) لما في معنى الرب من الرأفة به والانتصار له ولما في الإضافة إلى ضمير الرسول A من التشريف . وكلا الأمرين تعزيز للتسلية .
ولك أن تجعل كلمة ( بين ) دالة على أخرى مقدرة على سبيل إيجاز الحذف . والتقدير : بينهم وبين المؤمنين أي بما يظهر به انتصار المؤمنين فإنه يكثر أن يقال : بين كذا وبين كذا قال تعالى ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون ) .
ومعنى ( سبقت ) أي تقدمت في علمه على مقتضى حكمته وإرادته .
A E والأجل المسمى : جنس يصدق بكل ما أجل به عقابهم في علم الله . وأما ضمير ( وإنهم لفي شك منه مريب ) فهو خاص بالمشركين الشاكين في البعث والشاكين في أن الله ينصر رسوله والمؤمنين