ثم أخذ في لإبطال معاذيرهم ومطاعنهم بقوله ( وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ) فإن قولهم ذلك قصدوا به أن حجة القرآن غير مقنعة لهم إغاظة منهم للنبي A ثم تمالئهم على الإعراض بقوله ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) وهو عجز مكشوف بقوله ( إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا ) وبقوله ( إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم ) الآيات . فأعقبها بأوصاف كمال القرآن التي لا يجدون مطعنا فيها بقوله ( وإنه لكتاب عزيز ) الآية .
وإذ قد كانت هذه المجادلات من أول السورة إلى هنا إبطالا لتعللاتهم وكان عماده على أن القرآن عربي مفصل الدلالة المعروفة في لغتهم حسبما ابتدئ الكلام بقوله ( كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ) وانتهي هنا بقوله ( وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) فقد نهضت الحجة عليهم بدلالته على صدق الرسول A من هذه الجهة فانتقل إلى حجة أخرى عمادها الفرض والتقدير أن يكون قد جاءهم الرسول A بقرآن من لغة أخرى غير لغة العرب .
ولذلك فجملة ( ولو جعلناه قرآنا أعجميا ) معطوفة على جملة ( وإنه لكتاب عزيز ) على الاعتبارين المتقدمين آنفا في موقع تلك الجملة .
ومعنى الآية متفرع على ما يتضمنه قوله ( كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ) وقوله ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي ) من التحدي بصفة الأمية كما علمت آنفا أي لو جئناهم بلون آخر من معجزة الأمية فأنزلنا على الرسول قرآنا أعجميا وليس للرسول A علم بتلك اللغة من قبل لقلبوا معاذيرهم فقالوا : لولا بينت آياته بلغة نفهمها وكيف يخاطبنا بكلام أعجمي . فالكلام جار على طريقة الفرض كما هو مقتضى حرف ( لو ) الامتناعية . وهذا إبانه على أن هؤلاء القوم لا تجدي معهم الحجة ولا ينقطعون عن المعاذير لأن جدالهم لا يريدون به تطلب الحق وما هو إلا تعنت لترويج هواهم .
ومن هذا النوع في الاحتجاج قوله تعالى ( ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين ) أي لو نزلناه بلغة العرب على بعض الأعجمين فقرأه عليهم بالعربية لاشتراك الحجتين في صفة الأمية في اللغة المفروض إنزال الكتاب بها إلا أن تلك الآية بينت على فرض أن ينزل هذا القرآن على رسول لا يعرف العربية وهذه الآية بنيت على فرض أن ينزل القرآن على الرسول العربي A بلغة غير العربية .
وفي هذه الآية إشارة إلى عموم رسالة محمد A للعرب والعجم فلم يكن عجبا أن يكون الكتاب المنزل عليه بلغة غير العرب لولا أن في إنزاله بالعربية حكمة علمها الله فإن الله لما اصطفى الرسول A عربيا وبعثه بين أمة عربية كان أحق اللغات بأن ينزل بها كتابه إليه العربية إذ لو نزل كتابة بغير العربية لاستوت لغات الأمم كلها في استحقاق نزول الكتاب بها فأوقع ذلك تحاسد بينها بخلاف العرب إذ كانوا في عزلة عن الأمم فلا جرم رجحت العربية لأنها لغة الرسول A ولغة القوم المرسل بينهم فلا يستقيم أن يبقى القوم الذين يدعوهم لا يفقهون الكتاب المنزل إليهم .
ولو تعددت الكتب بعدد اللغات لفاتت معجزة البلاغة الخاصة بالعربية لأن العربية أشرف اللغات وأعلاها خصائص وفصاحة وحسن أداء للمعاني الكثيرة بالألفاظ الوجيزة . ثم العرب هم الذين يتولون نشر هذا الدين بين الأمم وتبيين معاني القرآن لهم .
A E ووقع في تفسير الطبري عن سعيد بن جبير أنه قال : قالت قريش : لولا أنزل هذا القرآن أعجميا وعربيا ؟ فأنزل الله ( لولا فصلت آياته أعجمي وعربي ) بهمزة واحدة على غير مذهب الاستفهام اه . ولا أحسب هذا تأويلا لسعيد ابن جبير لأنه لم يسنده إلى راو ولم يرو عن غير فرأى أن الآية تنبئ عن جواب كلام صدر عن المشركين المعبر عنهم بضمير ( لقالوا ) .
وسياق الآية ولفظها ينبو عن هذا المعنى وكيف و ( لو ) الامتناعية تمتنع من تحمل هذا التأويل وتدفعه