و ( يلقاها ) يجعل لاقيا لها أي كقوله تعالى ( ولقاهم نضرة وسرورا ) وهو مستعار للسعي لتحصيلها لأن التحصيل على الشيء بعد المعالجة والتخلق يشبه السعي لملاقاة أحد فيلقاه .
وجيء في ( يلقاها ) بالمضارع في الموضعين باعتبار أن المأمور بالدفع بالتي هي أحسن مأمور بتحصيل هذا الخلق في المستقبل وجيء في الصلة وهي ( الذين صبروا ) بالماضي للدلالة على أن الصبر خلق سابق فيهم هو العون على معاملة المسيء بالحسنى ولهذه النكتة عدل عن أن يقال : إلا الصابرون لنكتة كون الصبر سجية فيهم متأصلة .
ثم زيد في التنويه بها بأنها ما تحصل إلا لذي حظ عظيم .
والحظ : النصيب من الشيء مطلقا وقيل : خاص بالنصيب من خير والمراد هنا : نصيب الخير بالقرينة أو بدلالة الوضع أي ما يحصل دفع السيئة بالحسنة إلا لصاحب نصيب عظيم من الفضائل أي من الخلق الحسن والاهتداء والتقوى .
فتحصل من هذين أن التخلق بالصبر شرط في الاضطلاع بفضيلة دفع السيئة بالتي هي أحسن وأنه ليس وحده شرطا فيها بل وراءه شروط أخر يجمعها قوله ( حظ عظيم ) أي من الأخلاق الفاضلة والصبر من جملة الحظ العظيم لأن الحظ العظيم أعم من الصبر وإنما خص الصبر بالذكر لأنه أصلها ورأس أمرها وعمودها .
وفي إعادة فعل ( وما يلقاها ) دون اكتفاء بحرف العطف إظهار لمزيد الاهتمام بهذا الخبر بحيث لا يستتر من صريحة شيء تحت العطف .
وأفاد ( ذ حظ عظيم ) الحظ العظيم من الخبر سجيته وملكته كما اقتضته إضافة ( ذو ) .
وحاصل ما أشار إليه الجملتان أن مثلك من يتلقى هذه الوصية وما هي بالأمر الهين لكل أحد .
( وإما ينزغنك من الشيطان نزع فاستعذ بلله إنه هو السميع العليم [ 36 ] ) عطف على جملة ( وما يلقاها إلا الذين صبروا ) فبعد أن أرشد إلى ما هو عون على تحصيل هذا الخلق المأمور به وهو دفع السيئة بالتي هي أحسن وبعد أن شرحت فائدة العمل بها بقوله ( فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) صرف العنان هنا إلى التحذير من عوائقها التي تجتمع كثرتها في حقيقة نزغ الشيطان فأمر بأنه إن وجد في نفسه خواطر تصرفه عن ذلك وتدعوه إلى دفع السيئة بمثلها فإن ذلك نزع من الشيطان دواؤه أن تستعيذ بالله منه فقد ضمن الله له أن يعيذه إذا استعاذة لأنه أمره بذلك والخطاب للنبي A .
وفائدة هذه الاستعاذة تجديد داعية العصمة المركوزة في نفس النبي A لأن الاستعاذة بالله من الشيطان استمداد للعصمة وصقل لزكاء النفس مما قد يقترب منها من الكدرات . وهذا سر من الاتصال بين النبي A وربه وقد أشار إليه قول النبي A " إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة " فبذلك تسلم نفسه من أن يغشاها شيء من الكدرات ويلحق به في ذلك صالحو المؤمنين .
وفي الحديث القدسي عند الترمذي " ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببت كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه " .
ثم يلتحق بذلك بقية المؤمنين على تفاوتهم كما دل عليه حديث ابن مسعود عند الترمذي قال النبي A " إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ومن وجد الأخرى فليستعذ بالله من الشيطان " .
A E والنزغ : النخس وحقيقته : مس شديد للجلد بطرف عود أو إصبع فهو مصدر وهو هنا مستعار لاتصال القوة الشيطانية بخواطر الإنسان تأمره بالشر وتصرفه عن الخير وتقدم في قوله تعالى ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ) في سورة الأعراف وإسناد ( ينزغنك ) إلى ( نزع ) مجاز عقلي من باب : جد جده و ( من ) ابتدائية .
ويجوز أن يكون المراد بالنزغ هنا : النازغ وهو الشيطان وصف بالمصدر للمبالغة و ( من ) بيانية أي ينزغنك النازغ الذي هو الشيطان . والمبالغة حاصلة على التقديرين مع اختلاف جهتها