والتعبير بالمضارع في موضع المضي لقصد استحضار الحالة أو حين يختصم الطاغون وأتباعهم في النار بين يدي الملأ الأعلى أي ملائكة النار أو ملائكة المحشر والمضارع على أصله من الاستقبال .
والاختصام : افتعال من خصمه إذا نازعه وخالفه فهو مبالغة في خصم .
وجملة ( إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين ) مبينة لجملة ( ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون ) أي ما علمت بذلك النبأ إلا بوحي من الله وإنما أوحى الله إلي ذلك لأكون نذيرا مبينا .
وقد ركبت هذه الجملة من طريقين للقصر : إحداهما طريق النفي والاستثناء والأخر طريق ( أنما ) المفتوحة الهمزة وهي أخت ( إنما ) المكسورة الهمزة في معانيها التي منها إفادة الحصر ولا التفات إلى قول من نفوا إفادتها الحصر فإنها مركبة من ( أن ) المفتوحة الهمزة و ( ما ) الكافة وليست ( أن ) المفتوحة الهمزة إلا ( إن ) المكسورة تغير كسرة همزتها إلى فتحة لتفيد معنى مصدريا مشربا ب ( أن ) المصدرية إشرابا بديعا جعل شعاره فتح همزتها لتشابه ( أن ) المصدرية في فتح الهمزة وتشابه ( أن ) في تشديد النون وهذا من دقيق الوضع في اللغة العربية .
وتكون ( أنما ) مفتوحة الهمزة إذا جعلت معمولة لعامل في الكلام . والذي يقتضيه مقام الكلام هنا ان فتح همزة ( أنما ) لأجل لام تعليل مقدرة مجرور بها ( أنما ) . والتقدير : إلا لأنما أنا نذير أي إلا لعلة الإنذار أي ما أوحي إلي نبأ الملأ الأعلى إلا لأنذركم به أي ليس لمجرد القصص .
فالاستثناء من علل وقد نزل فعل ( يوحى ) منزلة اللازم أي ما يوحى إلي وحي فلا يقدر له مفعول لقلة جدواه وإيثار جدوى تعليل الوحي .
وبهذا التقدير تكمل المناسبة بين موقع هذه الجملة وموقع جملة ( ما كان لي من علم الملأ الأعلى إذ يختصمون ) المبينة بها جملة ( قل هو نبا عظيم أنتم عنه معرضون ) إذ لا مناسبة لو جعل ( إنما أنا نذير مبين ) مستثنى من نائب فاعل الوحي بان يقدر : إن يوحى إلي شيء إلا أنما أنا نذير مبين أي ما يوحى إلي شيء إلا كوني نذيرا وإن كان ذلك التقدير قد يسبق إلى الوهم لكنه بالتأمل يتضح رجحان تقدير العلة عليه .
فأفادت جملة ( إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين ) حصر حكمة ما يأتيه من الوحي في حصول الإنذار وحصر صفة الرسول A في صفة النذارة ويستلزم هذان الحصران حصرا ثالثا وهو أن إخبار القرآن وحي من الله وليست أساطير الأولين كما زعموا .
فحصل في هذه الجملة ثلاثة حصور : اثنان منها بصريح اللفظ والثالث بكناية الكلام وإلى هذا المعنى أشار قوله تعالى ( وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك ) . وهذه الحصور : اثنان منها إضافيان وهما قصر ما يوحى إليه على علة النذارة وقصر الرسول A على صفة النذارة وكلاهما قلب لاعتقادهم أنهم يسمعون القرآن ليتخذوه لعبا واعتقادهم أن رسول A ساحر أو مجنون . وعلم من هذا نبأ خلق آدم قصد به الإنذار من كيد الشيطان .
وقرأ أبو جعفر ( إلا إنما ) بكسر همزة ( إنما ) على تقدير القول أي ما يوحى إلا هذا الكلام .
( إذ قال ربك للملائكة إني خلق بشرا من طين [ 71 ] فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين [ 72 ] فسجد الملائكة كلهم أجمعون [ 73 ] إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين [ 74 ] ) موقع ( إذ قال ربك للملائكة ) صالح لأن يكون استئنافا فإذا جعلنا النبأ بمعنى نبأ أهل المحشر الموعود به فيكون ( إذ قال ) متعلقا بفعل محذوف تقديره : اذكر على أسلوب قوله ( وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا ) ونظائره .
A E