والإشارة إلى ما حكي عنهم من المقاولة . وسميت المقاولة تخاصما أي تجادلا وإن لم تقع بينهم مجادلة فإن الطاغين لم يجيبوا الفوج على قوله ( بل أنتهم لا مرحبا بكم ) ولكن لما اشتملت المقاولة على ما هو أشد من الجدال وهو قول كل فريق للآخر ( لا مرحبا بكم ) كان الذم أشد من المخاصمة فأطلق عليه اسم التخاصم حقيقة . وتقدم ذكر الخصام عند قوله تعالى ( هذان خصمان ) في سورة الحج .
وأضيف هذا التخاصم إلى أهل النار كلهم اعتبارا لغالب أهلها لآن غالب أهل النار أهل الضلالات الإعتقادية وهم لا يعدون أن يكونوا دعاة للضلال أو أتباعا للدعاة إليه فكلهم يجري بينهم هذا التخاصم أما من كان في النار من العصاة فكثير منهم ليس عصيانهم إلا تبعا لهواه مع كونه على علم بان ما يأتيه ضلالة لم يسوله له أحد .
و ( أهل النار ) هم الخالدون فيها كقولهم : أهل قرية كذا فإنه لا يشمل المقترب بينهم على أن وقت نزول هذه الآية لم يكن في مكة غير المسلمين الصالحين وغير المشركين فوصف أهل النار يوم إذ لا يتحقق إلا في المشركين دون عصاة المسلمين .
وقوله ( تخاصم أهل النار ) إما خبر مبتدأ محذوف تقديره : وهو تخاصم أهل النار والجملة استئناف لزيادة بيان مدلول اسم الإشارة أو هو مرفوع على أنه خبر ثان عن ( إن ) أو على بدل من ( لحق ) .
( قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار [ 65 ] رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار [ 66 ] ) هذا راجع إلى قوله ( وقالوا الكافرون هذا ساحر كذاب ) إلى قوله ( أأنزل عليه الذكر من بيننا ) فلما ابتدرهم الجواب . على ذلك التكذيب بأن نظر حالهم بحال الأمم المكذبة من قبلهم ولتنظير حال الرسول A بحال الأنبياء الذين صبروا واستوعب ذلك بما فيه مقنع عاد الكلام إلى تحقيق مقام الرسول A من قومه فأمره الله أن يقول ( إنما أنا منذر ) مقابل قولهم ( هذا ساحر كذاب ) وأن يقول ( ما من إله إلا الله ) مقابل إنكارهم التوحيد كقولهم ( أجعل الآلهة إلها واحدا ) فالجملة استئناف ابتدائي .
وذكر صفة الواحد تأكيد لمدلول ( من إله إلا الله ) إماء إلى رد إنكارهم . وذكر صفة القهار تعريض بتهديد المشركين بأن الله فادر على قهرهم أي غلبهم . وتقدم الكلام على القهر عند قوله تعالى ( وهو القاهر فوق عباده ) في سورة الأنعام .
وإتباع ذلك بصفة ( رب السماوات والأرض ) وما بينهما تصريح بعموم ربوبيته وأنه لا شريك له في شيء منها .
ووصف ( العزيز ) تمهيد للوصف ب ( الغفار ) أي الغفار عن عزة ومقدرة لا عن عجز وملق أو مراعاة جانب مساو .
والمقصود من وصف ( الغفار ) هنا استدعاء المشركين إلى التوحيد بعد تهديدهم بمفاد وصف ( القهار ) لكي لا ييأسوا من قبول التوبة بسبب كثرة ما سيق إليهم من الوعيد جريا على عادة القرآن في تعقيب الترهيب بالترغيب والعكس .
( قل هو نبأ عظيم [ 67 ] أنتم عنه معرضون [ 68 ] ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون [ 69 ] إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين ) إعادة الأمر بالقول هنا مستأنفا . والعدول عن الإتيان بحرف يعطف المقول أعني ( هو نبأ عظيم ) على المقول السابق أعني ( أنا منذر ) عدول يشعر بالاهتمام بمقول هنا كي لا يؤتي به تابعا لمقول آخر فيضعف تصعدي السامعين لوعيه .
A E وجملة ( قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون ) يجوز أن تكون في موقع الاستئناف الابتدائي انتقالا من غرض وصف أحوال أهل المحشر إلى غرض قصة خلق آدم وشقاء الشيطان فيكون ضمير ( هو ) ضمير شأن يفسره ما بعده وما يبين به ما بعده من قوله ( إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين ) جعل هذا كالمقدمة للقصة تشويقا لتلقيها فيكون المراد بالنبأ نبأ خلق آدم وما جرى بعده ويكون ضمير ( يختصون ) عائدا إلى الملأ الأعلى لأن الملأ جماعة . ويراد بالاختصام الاختلاف الذي جرى بين الشيطان وبين من بلغ إليه من الملائكة أمر الله بالسجود لآدم فالملائكة هم الملأ الأعلى وكان الشيطان بينهم فعد منهم قبل أن يطرد من السماء