فسمعهم الأتباع فيقولون ( بل أنتم لا مرحبا بكم ) إضرابا عن كلامهم . وجيء بحكاية قولهم على طريقة المحاورات فلذلك جرد من حرف العطف أي أنتم أولى بالشتم والكراهية بأن يقال : لا مرحبا بكم لأنكم الذين تسببتم لأنفسكم ولنا في هذا العذاب بإغرائكم إيانا على التكذيب والدوام على الكفر .
و ( بل ) للإضراب الإبطالي لرد الشتم عليهم وانهم أولى به منهم .
وذكر ضمير المخاطبين في قوله ( أنتم لا مرحبا بكم ) للتنصل من شتمهم أي أنتم المشتومون أي أولى بالشتم منا وقد استفيد هذا المعنى من حرف الإبطال لا من الضمير لأن الضمير لا مفهوم له ولأن موقعه هنا لا يقتضي حصرا ولا تقويا لأنه مخبر عنه بجملة إنشائية أي أنتم يقال لكم : لا مرحبا بكم .
وإذا قد كان قول : مرحبا إنشاء دعاء بالخبر وكان نفيه إنشاء دعاء بضده كان قوله ( بهم ) بيانا لمن وجه الدعاء لهم أي إيضاحا للسامع أن الدعاء على أصحاب الضمير المجرور بالباء فكانت الباء فيه للتبيين . قال في الكشاف : و ( بهم ) بيان لمدعو عليهم . وقال الهمذاني في شرحه للكشاف : يعني : البيان المصطلح كأن قائلا يقول : بمن يحصل هذا الرحب ؟ فيقول : بهم . وهذا كما في ( هيت لك ) . يعني أن الباء فيه بمعنى لام التبيين .
وهذا المعنى أغلفه ابن هشام في معاني الباء . وأشار الهمذاني إلى أنه متولد من معنى السببية . والأحسن عندي أن يكون متولدا من معنى المصاحبة بطريق الاستعارة التبعية ثم غلب استعمال الباء في مثله في كلامهم فصار كالحقيقة لأنه لما صار إنشاء دعاء لم تبق معه ملاحظة الإخبار بحصول الرحب معهم أو بسببهم كما يتجه بالتأمل .
وجملة ( أنتم قدمتموه لنا ) علة لقلب سبب الشتم إليهم أي لأنكم قدمتم العذاب لنا فضمير النصب في ( قدمتموه ) عائد إلى العذاب المشاهد وهو حاضر في الذهن غير مذكور في اللفظ مثل ( حتى توارت بالحجاب ) .
ووقوع ( أنتم ) قبل ) قدمتموه ) المسند الفعلي يفيد الحصر أي لم يضلنا غيركم فأنتم أحقاء بالعذاب .
والتقديم : جعل الشيء قدام غيره قال تعالى ( فذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم ) . فتقديم العذاب لهم جعله قدامهم أي جعله حيث يجدونه عند وصولهم . وإسناد تقديم العذاب إلى المخاطبين مجاز عقلي لأن الرؤساء كانوا سببا في تقديم العذاب لأتباعهم بإغوائهم وكان العذاب جزاء عن الغواية . وجعل العذاب مقدما وإنما المقدم العمل الذي استحق العذاب وهذا مجاز عقلي في المفعول فاجتمع في قوله ( قدمتموه ) مجازان عقليان .
وقوله ( فبئس القرار ) موقعه كموقع قوله آنفا ( فبئس المهاد ) . وهو ذم لإقامتهم في جهنم تشنيعا عليهم فيما تسببوا لأنفسهم فيه . والمعنى : فبئس القرار ما قدمتموه لنا أي العذاب . والقرار : المكث .
( قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار [ 61 ] ) ( قاتلوا ) أي الفوج المقتحم وهو فوج الأتباع فهذا من كلام الذين قالوا ( بل أنتم لا مرحبا بكم ) لأن قولهم ( من قدم لنا هذا ) يعين هذا المحمل . ولذلك حق أن يتساءل الناظر عن وجه إعادة فعل ( قالوا ) وعن وجه عدم عطفه على قولهم الأول .
فأما إعادة فعل القول فلإفادة أن القائلين هم الأتباع فأعيد فعل القول تأكيدا للفعل الأول لقصد تأكيد فاعل القول تبعا لأنه محتمل لضمير القائلين .
A E والمقصود من حكاية قولهم ( هذا ) تحذير كبراء المشركين من عواقب رئاستهم وزعامتهم التي يجرون بها الويلات على أتباعهم فيوقعونهم في هاوية السوء حتى لا يجد الأتباع لهم جزاء بعد الفوت إلا طلب مضاعفة العذاب لهم .
وأما تجريد فعل ( قالوا ) عن العاطف فلأنه قصد به التوكيد اللفظي والتوكيد اللفظي على مثال المؤكد .
ولا تلتبس حكاية هذا القول على هذه الكيفية بحكاية المحاورات فيحسب أنه من كلام الفريق الآخر لأنه الدعاء بعنوان ( من قدم لنا هذا ) ويعين أن قائليه هم القائلون ( أنتم قدمتموه لنا ) وأن الذين قدموا لهم هم الطاغون . وفي معنى هذه الآية آية سورة الأعراف ( قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار )