فيجوز أن يكون عطفا على قوله ( إلا عباد الله المخلصين ) على أول الوجهين في المعنى بعباد الله المخلصين فيكون عطفا على معنى الاستثناء المنقطع لأن معناه أنهم ليسوا أولاد الله تعالى وعطف عليه أنهم يتبرأون من ذلك فالواو عاطفة قولا محذوفا يدل عليه أن ما بعد الواو لا يصلح إلا أن يكون كلام قائل . والتقدير : ويقولون ما منا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون وهذا الوجه أوفق بالصفات المذكورة من قوله ( إلا له مقام معلوم ) وقوله ( الصافون ... المسبحون ) : الشائع وصف الملائكة بأمثالها في القرآن كما تقدم في أول السورة وصفهم بالصافات ووصفهم بالتسبيح كثير كقوله ( والملائكة يسبحون بحمد ربهم ) وذكر مقاماتهم في قوله تعالى ( ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين ) وقوله ( ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ) .
وفي أحاديث كثيرة مثلا حديث الإسراء أن جبريل وجد في كل سماء ملكا يستأذنه جبريل أن يدخل تلك السماء ويسأله الملك : من أنت ؟ ومن معك ؟ وهل أرسل إليه ؟ فإذا قال : نعم فتح له .
وعن مقاتل أن قوله ( وما منا إلا له مقام معلوم ) إلى ( المسبحون ) نزل ورسول الله A عند سدرة المنتهى فتأخر جبريل فقال له النبي : أهنا تفارقني فقال : لا أستطيع أن أتقدم عن مكاني وأنزل الله حكاية عن قول الملائكة ( وما منا إلا له مقام معلوم ) الآيتين .
ويجوز أن يكون هذا مما أمر النبي A بأن يقوله للمشركين عطفا على التفريع الذي في قوله ( فإنكم وما تعبدون ) إلى آخره ويتصل الكلام بقوله ( فاستفتهم ألربك البنات ) إلى هنا .
والمعنى : ما أنتم بفاتنيننا فتنة جراءة على ربنا فنقول مثل قولكم : الملائكة بنات الله والجن أصهار الله فما إلا له مقام معلوم لا يتجاوزه وهو مقام المخلوقية لله والعبودية له .
والمنفي ب ( ما ) محذوف دل عليه وصفه بقوله ( منا ) . والتقدير : وما أحد منا كما في قول سحيم بن وثيل : .
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني A E التقدير : ابن رجل جلا .
والخبر هو قوله ( إلا له مقام معلوم ) . والتقدير : ما أحد منا إلا كائن له مقام معلوم .
والمقام : أصله مكان القيام . ولما كان القيام يكون في الغالب لأجل العمل كثر إطلاق المقام على العمل الذي يقوم به المرء كما حكي في قول نوح ( إن كان كبر عليكم مقامي ) أي عملي .
والمعلوم : المعين المضبوط وأطلق عليه وصف ( معلوم ) لأن الشيء المعين المضبوط لا يشتبه على المتبصر فيه فمن تأمله علمه .
والمعنى : ما من أحد منا معشر المؤمنين إلا له صفة وعمل نحو خالقه لا يستزله عنه شيء ولا تروج عليه العبودية لله بقرينة وقوع هذه الجملة عقب قوله ( فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين ) أي ما أنتم بفاتنين لنا فلا يلتبس علينا فضل الملائكة فنرفعه إلى مقام النبوة لله تعالى ولا نشبه اعتقادكم في تصرف الجن أن تبلغوا بهم مقام المصاهرة لله تعالى والمداناة لجلاله كقوله ( وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم ) .
فقوله ( وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون ) أي وإنا معشر المسلمين الصافون أي الواقفون لعبادة الله صفوفا بالصلاة . ووصف وقوفهم في الصلاة بالصف تشبها بنظام الملائكة . قال النبي A في حديث مسلم ( جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ) والمراد بالمسبحين المنزهون لله تعالى عن أن يتخذ ولدا أو يكون خلق صهرا له أو صاحبة خلافا لشرككم إذ عبادتكم مكاء وتصدية وخلافا لكفركم إذ تجعلون له صواحب وبنات وأصهارا . وحذف متعلق ( الصافون...المسبحون ) لدلالة قوله ( ما أنتم عليه بفاتنين ) عليه أي الصافون لعبادته المسبحون له فإن الكلام في هذه الآيات كلها متعلق بشؤون الله تعالى .
وتعريف جزأي الجملة وضمير الفصل من قوله ( لنحن ) يفيدان قصرا مؤكدا فهو قصر قلب أي دون ما وصفتموه به من النبوة لله .
( وإن كانوا ليقولون [ 167 ] لو أن عندنا ذكرا من الأولين [ 168 ] لكنا عباد الله المخلصين [ 169 ] فكفروا به فسوف يعلمون [ 170 ] )