ثم لما كان تفسيرهم لذلك معلوما من متكرر أقوالهم نزلوا منزلة المجيب بأن الملائكة بنات الله وأن الملائكة إناث . وإنما أريد من استفسارهم صورة الاستفسار مضايقة لهم ولينتقل من مقام الاستفسار إلى مقام المطالبة بالدليل على دعواهم فذلك الانتقال ابتداء من قوله ( وهم شاهدون ) وهو اسم فاعل من شهد إذا حضر ورأى ثم قوله ( أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين ) فرددهم بين أن يكونوا قد استندوا إلى دليل المشاهدة أو إلى دليل غيره وهو هنا متعين لأن يكون خبرا مقطوعا بصدقه ولا سبيل إلى ذلك إلا من عند الله تعالى لأن مثل هذه الدعوى لا سبيل إلى إثباتها غير ذلك فدليل المشاهدة منتف بالضرورة ودليل العقل والنظر منتف أيضا إذ لا دليل من العقل يدل على أن الملائكة إناث ولا على أنهم ذكور .
فلما علم أن دليل العقل غير مفروض هنا انحصر الكلام معهم في دليل السمع وهو الخبر الصادق لأن أسباب العلم للخلق منحصرة في هذه الأدلة الثلاثة : أشير إلى دليل الحس بقوله ( وهم شاهدون ) وإلى دليلي العقل والسمع بقوله ( أم لكم سلطان مبين ) ثم فرع عليه قوله ( فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين ) وهو دليل السمع . فأسقط بهذا التفريع احتمال دليل العقل لأن انتفاءه مقطوع إذ لا طريق إليه وانحصر دليل السمع في أنه من عند الله كما علمت إذ لا يعلم ما في غيب الله غيره .
ثم خوطبوا بأمر التعجيز بأن يأتوا بكتاب أي كتاب جاءهم من عند الله . وإنما عين لهم ذلك لأنهم يعتقدون استحالة مجيء رسول من عند الله واستحالة أن يكلم الله أحدا من خلقه فانحصر الدليل المفروض من جانب السمع أن يكون إخبارا من الله في أن ينزل عليهم كتاب من السماء لأنهم كانوا يجوزون ذلك لقولهم ( ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ) ولن يستطيعوا أن يأتوا بكتاب .
A E فذكر لفظ ( كتابكم ) إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال : فأتوا به أي السلطان المبين فإنه لا يحتمل إلا أن يكون كتابا من عند الله .
وإضافة كتاب إلى ضميرهم من إضافة ما فيه معنى المصدر إلى معنى المفعول على طريقة الحذف والإيصال والتقدير : بكتاب إليكم لأن ما فيه مادة الكتابة لا يتعدى إلى المكتوب إليه بنفسه بل بواسطة حرف الجر وهو ( إلى ) .
فلا جرم قد اتضح إفحامهم بهذه المجادلة الجارية على القوانين العقلية ولذلك صاروا كالمعترفين بأن لا دليل لهم على ما زعموا فانتقل السائل المستفتي من مقام الاعتراض في المناظرة إلى انقلابه مستدلا باستنتاج من إفحامهم وذلك هو قوله ( ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون ) الواقع معترضا بين الترديد في الدليل .
وأما قوله ( أصطفى البنات على البنين ) فذلك بمنزلة التسليم في أثناء المناظرة كما علمت عند الكلام عليه وهذا يسمى المعارضة . وإنما أقحم في أثناء الاستدلال عليهم ولم يجعل مع حكاية دعواهم ليكون آخر الجدل معهم هو الدليل الذي يجرف جميع ما بنوه وهو قوله ( أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين ) . فهذا من بديع النسيج الجامع بين أسلوب المناظرة وأسلوب الموعظة وأسلوب التعليم .
وقرأ الجمهور ( تذكرون ) بتشديد الذال على أن أصله تتذكرون فأدغمت إحدى التاءين في الدال بعد قلبها ذالا لقرب مخرجيهما . وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بتخفيف الذال على أن إحدى التاءين حذفت تخفيفا .
( وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون [ 158 ] ) عطف على جملة ( ليقولون ) أي شفعوا قولهم ( ولد الله ) فجعلوا بين الله وبين الجن نسبا بتلك الولادة أي بينوا كيف حصلت تلك الولادة بأن جعلوها بين الله تعالى وبين الجنة نسبا .
والجنة : الجماعة من الجن فتأنيث اللفظ بتأويل الجماعة مثل تأنيث رجلة الطائفة من الرجال ذلك لأن المشركين زعموا أن الملائكة بنات الله من سروات الجن أي من فريق نساء من الجن من أشراف الجن وتقدم في قوله تعالى ( أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة ) في سورة الأعراف .
والنسب : القرابة العمودية أو الأفقية " أي من الأطراف " والكلام على حذف مضاف أي ذوي لله تعلى وهو نسب النبوة لزعمهم أن الملائكة بنات الله تعالى أي جعلوا لله تعالى نسبا للجنة للجنة نسبا لله