ولعلها من مخترعات الكهنة وسدنة الأصنام . فلما شاعت في البشر أقرتها الشرائع لما فيها من قطع الخصام والقتال ولكن الشرائع الحق لما أقرتها اقتصدت في استعمالها بحيث لا يصار إليها إلا عند التساوي في الحق وفقدان المرجح الذي هو مؤثر في نوع ما يختلفون فيه فهي من بقايا الأوهام . وقد اقتصرت الشريعة الإسلامية في اعتبارها على أقل ما تعتبر فيه . مثل تعيين أحد الأقسام المتساوية لأحد المتقاسمين إذ تشاحوا في أحدها قال ابن رشد في المقدمات " والقرعة إنما جعلت تطييبا لأنفس المتقاسمين واصلها قائم في كتاب الله لقوله تعالى في قصة يونس ( فساهم فكان من المدحضين ) .
وعندي : أن ليس في الآية دليل على مشروعية القرعة في الفصل بين المتساويين لأنها لم تحك شرعا صحيحا كان قبل الإسلام إذ لا يعرف دين أهل السفينة الذين أجروا الاستهام على يونس على أن ما أجري الاستهام عليه قد أجمع المسلمون على أنه لا يجري في مثله استهام . فلو صح أن ذلك كان شرعا لمن قبلنا فقد نسخه إجماع علماء أمتنا .
A E قال ابن العربي : الاقتراع على إلقاء الآدمي في البحر لا يجوز فكيف المسلم فإنه لا يجوز فيمن كان عاصيا أن يقتل ولا يرمى به في النار والبحر . وإنما تجري عليه الحدود والتعزيز على مقدار جنايته . وظن بعض الناس أن البحر إذا هال على القوم فاضطروا إلى تخفيف السفينة أن القرعة تضرب عليهم فيطرح بعضهم تخفيفا وهذا فاسد فلا تخفف برمي بعض الرجال وإنما ذلك في الأموال وإنما يصبرون على قضاء الله .
وكانت في شريعة من قبلنا القرعة جائزة في كل شيء على العموم . وجاءت القرعة في شرعنا على الخصوص في ثلاثة مواطن : الأول : " كان النبي A إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه " .
الثاني : " أن النبي A رفع إليه أن رجلا أعتق في مرض موته ستة أعبد لا مال له غيرهم فأقرع بين اثنين " وهما معادل الثلث " وأرق أربعة " .
الثالث : " أن رجلين اختصما إليه في مواريث درست فقال : اذهبا وتوخيا الحق واستهما وليحلل كل واحد منكما صاحبه " .
واختلف علماؤنا في القرعة بين الزوجات عند الغزو على قولين : الصحيح منهما الاقتراع وبه قال أكثر فقهاء الأمصار وذلك لأن السفر بجميعهن لا يمكن واختيار واحدة منهن إيثار فلم يبق إلا القرعة .
وقال القرافي في الفرق 240 : متى تعينت المصلحة أو الحق في جهة لا يجوز الاقتراع لأن في القرعة ضياع الحق ومتى تساوت الحقوق أو المصالح فهذا موضع القرعة دفعا للضغائن فهي مشروعة بين الخلفاء إذا استوت فيهم الأهلية للولاية والأئمة والمؤذنين إذا استووا والتقدم للصف الأول عند الازدحام وتغسيل الأموات عند تزاحم الأولياء وتساويهم وبين الحاضنات والزوجات في السفر والقسمة والخصوم عند الحكام في عتق العبيد إذا أوصى بعتقهم في المرض ولم يحملهم الثلث . وقاله الشافعي وابن حنبل . وقال أبو حنيفة : لا تجوز القرعة " بينهم " . ويعتق من كل ثلثه ويستسعى في قيمته ووافق في قيمة الأرض . قال : والحق عند أنها تجري في كل مشكل اه .
قلت : وفي الصحيح " عن أم العلاء الأنصارية أنه لما اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين وقع في سهمهم عثمان بن مظعون " الحديث .
وقال الجصاص : " احتج بهذه الآية بعض الأغمار في إيجاب القرعة في العبيد يعتقهم المريض . وذلك إغفال منه لأن يونس ساهم في طرحه في البحر وذلك لا يجوز عند أحد من الفقهاء كما لا تجوز القرعة في قتل من خرجت عليه وفي أخذ ماله فدل على أنه خاص فيه " .
وقال في سورة آل عمران " ومن الناس من يحتج بإلقاء الأقلام في كفالة مريم على جواز القرعة في العبيد يعتقهم الرجل في مرضه ثم يموت ولا مال له غيرهم وليس هذا ( أي إلقاء الأقلام ) من عتق العبيد في شيء لأن الرضى بكفالة الواحد منهم مريم جائز في مثله ولا يجوز التراضي على استرقاق من حصلت له الحرية وقد كان عتق الميت نافذا في الجميع فلا يجوز نقله بالقرعة عن أحد منهم إلى غيره كما لا يجوز التراضي على نقل الحرية عمن وقعت عليه " .
والإدحاض : جعل المرء داحضا أي زالقا غير ثابت الرجلين وهو هنا استعارة للخسران والمغلوبية