لما أرشد الله المؤمنين إلى تناهي مراتب حرمة النبي A وتكريمه وحذرهم مما قد يخفي على بعضهم من خفي الأذى في جانبه بقوله ( أن ذلكم كان يؤذي النبي ) وقوله ( وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ) الآية وعلمهم كيف يعاملونه معاملة التوقير والتكريم بقوله ( ولا مستأنسين لحديث ) وقوله ( ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما ) وقوله ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ) الآية وعلم أنهم قد امتثلوا أو تعلموا أردف ذلك بوعيد قوم أتسمو بسمات المؤمنين وكان من دأبهم السعي فيما يؤذي الرسول E فأعلم الله المؤمنين بأن أولئك ملعونون في الدنيا والآخرة ليعلم المؤمنين أن أولئك ليس من الإيمان في شئ في شيء وأنهم منافقون لأن مثل هذا الوعيد لا يعهد إلا للكافرين .
فالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأنه يخطر الأذى كثير ممن يسمع الآيات السابقة أن يتساءلوا عن حال قوم قد علم منهم قلة التحرز من أذى الرسول A بما لا يليق بتوقيره .
وجئ باسم الموصول للدلالة على أنهم عرفوا بأن إيذاء النبي A من أحوالهم المختصة بهم ولدلالة الصلة على أن أذى النبي A هو علة لعنهم وعذابهم .
واللعن : الإبعاد عن الرحمة وتحقير الملعون . في الدنيا محقرون عند المسلمين ومحرومون من لطف الله وعنايته وهم في الآخرة محقرون بالإهانة في الحشر وفي الدخول في النار .
والعذاب المهين : هو عذاب جهنم في الآخرة وهو مهين لأنه عذاب مشيب بتحقير وخزي .
والقرن بين أذى الله ورسوله للإشارة إلى أن أذى الرسول A يغضب الله تعالى فكأنه أذى لله .
وفعل ( يؤذون ) معدى إلى أسم الله على معنى المجاز المرسل في اجتلاب غضب الله وتعديته إلى الرسول حقيقة . فاستعمل ( يؤذون ) في معنييه المجازي والحقيقي .
ومعنى هذا قول النبي A " من آذاني فقد آذى الله " وأذى الرسول E يحصل بالإنكار عليه فيما يفعله وبالكيد له وبأذى أهله مثل المتكلمين في الإفك والطاعنين أعماه كالطعن في إمارة زيد وأسامة والطعن في أخذه صفية لنفسه . وعن ابن عباس " أنها نزلت في الذين طعنوا في اتخاذ النبي A صفية بنت حيي لنفسه " .
( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتنا وإثما مبينا [ 58 ] ) ألحقت حرمة المؤمنين بحرمة الرسول A تنويها بشأنهم وذكروا على حدة للإشارة إلى نزول رتبتهم عن رتبة الرسول E . وهذا من الاستطراد معترض بين أحكام حرمة النبي A وآداب أزواجه وبناته المؤمنات .
وعطف ( المؤمنات ) على ( المؤمنين ) للتصريح بمساواة الحكم وأن كان ذلك معلوما من الشريعة لوزع المؤذين عن أذى المؤمنات لأنهن جانب ضعيف بخلاف الرجال فقد يزعهم عنهم اتقاء غضبهم وثأرهم لأنفسهم .
والمراد بالأذى : أذى القول بقرينه قوله ( فقد احتملوا بهتانا ) لأن البهتان من أنواع الأقوال وذلك تحقير لأقوالهم وأتبع ذلك التحقير بأنه أثم مبين . والمراد بالمبين العظيم القوي أي جرما من أشد الجرم وهو وعيد بالعقاب عليه .
وضمير ( اكتسبوا ) عائد إلى المؤمنين والمؤمنات على سبيل التغليب والمجرور في موضع الحال . وهذا الحال لزيادة تشنيع ذلك الأذى بأنه ظلم وكذب .
وليس المراد بالحال تقييد الحكم حتى يكون مفهومه جواز أذى المؤمنين والمؤمنات بما اكتسبوا بعمل أي أن يسبوا بعمل ذميم اكتسبوه لأن الجزاء على ذلك ليس موكولا لعموم الناس ولكنه موكول إلي ولاة لأمور كما قال تعالى ( واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ) . وقد نهى النبي A عن الغيبة وقال " هي أن تذكر أخاك بما يكره . فقيل : وإن كان حقا . قال : إن كان غير حق فذلك البهتان " فأما تغيير المنكر فلا يصحبه أذى .
وما صدق الموصول في قوله ( ما اكتسبوا ) سيئا أي بغير ما اكتسبوا من سيئ . ومعنى ( احتملوا ) كلفوا أنفسهم حملا وذلك تمثيل للبهتان بحمل ثقيل على صاحبه وقد تقدم نظيره في قوله تعالى ( ومن يكسب خطيئة أو أثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ) في سورة النساء .
A E