فالأرض الجرز : التي انقطع نبتها . ولا يقال للأرض التي لا تنبت كالسباخ جرز . والزرع : ما نبت بسبب بذر حبوبه في الأرض كالشعير والبر والفصفصة وأكل الأنعام غالبه من الكلأ لا من الزرع فذكر الزرع بلفظه ثم ذكر أكل الأنعام يدل على تقدير : وكلأ . ففي الكلام اكتفاء . والتقدير : ونخرج به زرعا وكلأ تأكل منه أنعامهم وأنفسهم . والمقصود : الاستدلال على البعث وتقريبه وإمكانه بإخراج النبت من الأرض بعد أن زال ؛ فوجه الأول . وأدمج في هذا الاستدلال امتنان بقوله ( تأكل منه أنعامهم وأنفسهم ) .
ثم فرع عليه استفهام تقريري بجملة ( أفلا يبصرون ) . وتقدم بيان مثله آنفا في قوله ( أفلا يسمعون ) . ونيط الحكم بالإبصار هنا دلالة إحياء الأرض بعد موتها دلالة مشاهدة .
( ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين [ 28 ] قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون [ 29 ] فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون [ 30 ] ) يجوز أن يكون عطفا على جملة ( ثم أعرض عنها ) أي أعرضوا عن سماع الآيات والتدبر فيها وتجاوزوا ذلك إلى التكذيب والتهكم بها . ومناسبة ذكر ذلك هنا أنه وقع عقب الإشارة إلى دليل وقوع البعث وهو يوم الفصل .
ويجوز أن يعطف على جملة ( وقالوا أإذا ضللنا في الأرض إنا لفي خلق جديد ) .
والمعنى : أنهم كذبوا بالبعث وما معه من الوعيد في الآخرة وكذبوا بوعيد عذاب الدنيا الذي منه قوله تعالى ( ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ) .
والفتح : النصر والقضاء . والمراد به : نصر أهل الإيمان بظهور فوزهم وخيبة أعدائهم فإن خيبة العدو نصر لضده وكان المسلمون يتحدون المشركين بأن الله سيفتح بينهم وينصرهم وتظهر حجتهم فكان الكافرون يكررون التهكم بالمسلمين بالسؤال عن وقت هذا الفتح استفهاما مستعملا في التكذيب حيث لم يحصل المستفهم عنه .
وحكاية قولهم بصيغة المضارع لإفادة التعجيب منه كقوله تعالى ( يجادلنا في قوم لوط ) مع إفادة تكرر ذلك منهم واتخاذهم إياه .
A E والمعنى : إن كنتم صادقين في أنه واقع فبينوا لنا وقته فإنكم إذ علمتم به دون غيركم فلتعلموا وقته . وهذا من السفسطة الباطلة لأن العلم بالشيء إجمالا لا يقتضي العلم بتفصيل أحواله حتى ينسب الذي لا يعلم تفصيله إلى الكذب في إجماله .
واسم الإشارة في ( هذا الفتح ) مع إمكان الاستغناء عنه بذكر مبينه مقصود منه التحقير وقلة الاكتراث به كما في قول قيس بن الخطيم : .
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها إنباء بقلة اكتراثه بالموت . ومنه قوله تعالى حكاية عنهم ( أهذا الذي يذكر آلهتكم ) فأمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجيبهم على طريقة الأسلوب الحكيم بأن يوم الفتح الحق هو يوم القيامة وهو يوم الفصل وحينئذ ينقطع أمل الكفار في النجاة والاستفادة من الندامة والتوبة ولا يجدون إنظارا لتدارك ما فاتهم أي إفادتهم هذه الموعظة خير لهم من تطلبهم معرفة وقت حلول يوم الفتح لأنهم يقولون يومئذ ( ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ) مع ما في هذا الجواب من الإيماء إلى أن زمن حلوله غير معلوم للناس وأنه مما استأثر الله به فعلى من يحتاط لنجاة نفسه أن يعمل له من الآن فإنه لا يدري متى يحل به ف ( لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ) .
ففي هذا الجواب سلوك الأسلوب الحكيم من وجهين : من وجه العدول عن تعيين يوم الفتح ومن وجه العدول بهم إلى يوم الفتح الحق وهم إنما أرادوا بالفتح نصر المسلمين عليهم في الحياة الدنيا .
وإظهار وصف الذين كفروا في مقام الإضمار مع أنهم هم القائلون ( متى هذا الفتح ) لقصد التسجيل عليهم بأن كفرهم هو سبب خيبتهم .
ثم فرع على جميع هذه المجادلات والدلالات توجيه الله خطابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بان يعرض عن هؤلاء القائلين المكذبين وأن لا يزيد في الإلحاح عليهم تأييسا من إيمان المجادلين منهم المتصدين للتمويه على دهمائهم . وهذا إعراض متاركة عن الجدال وقتيا لا إعراض مستمر ولا عن الدعوة إلى الله ولا علاقة له بأحكام الجهاد المشروع في غير هذه الآية