( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون [ 22 ] ) عطف على جملة ( إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها ) إلى آخرها حيث اقتضت أن الذين قالوا ( أإذا ضللنا في الأرض إنا لفي خلق جديد ) ليسوا كأولئك فانتقل إلى الإخبار عنهم بأنهم أشد الناس ظلما لأنهم يذكرون بآيات الله حين يتلى عليهم القرآن فيعرضون عن تدبرها ويلغون فيها فآيات الله مراد بها القرآن .
وجيء في عطف جملة ( أعرض ) بحرف ( ثم ) لقصد الدلالة على تراخي رتبة الإعراض عن الآيات بعد التذكير بها تراخي استبعاد وتعجيب من حالهم كقول جعفر بن علبة الحارثي : .
لا يكشف الغماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها أي عجيب إقدامه على مواقع الهلاك بعد مشاهدة غمرات الموت تغمر الذين أقدموا على تلك المواقع .
و ( من ) للاستفهام الإنكاري كقوله ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) أي لا أظلم منه أي لا أحد أظلم منه لأنه ظلم نفسه بحرمانها من التأمل فيما نفعه وظلم الآيات بتعطيل نفعها في بعض من أريد انتفاعهم بها وظلم الرسول عليه الصلاة والسلام بتكذيبه والإعراض عنه وظلم حق ربه إذ لم يمتثل ما أراد منه .
A E وجملة ( إنا من المجرمين منتقمون ) مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن تفظيع ظلم الذي ذكر بآيات ربه فأعرض عنها لأن السامع يترقب جزاء ذلك الظالم .
والمراد بالمجرمين هؤلاء الظالمون عدل عن ذكر ضميرهم لزيادة تسجيل فظاعة حالهم بأنهم مجرمون مع أنهم ظالمون وقد يقال : إن المجرمين أعم من الظالمين فيكون دخلوهم في الانتقام من المجرمين أحرويا وتصير جملة ( إنا من المجرمين منتقمون ) تذييلا .
( ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل [ 23 ] ) لما جرى ذكر إعراض المشركين عن آيات الله وهي آيات القرآن في قوله ( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها ) استطرد إلى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بأن ما لقي من قومه هو نظير ما لقيه موسى من قوم فرعون الذين أرسل إليهم فالخبر مستعمل في التسلية بالتنظير والتمثيل .
فهذه الجملة وما بعدها إلى قوله ( فيما كانوا فيه يختلفون ) معترضات . وموقع التأكيد بلام القسم وحرف التحقيق هو ما استعمل فيه الخبر من التسلية لا لأصل الأخبار لأنه أمر لا يحتاج إلى التأكيد وبه تظهر رشاقة الاعتراض بتفريع ( فلا تكن في مرية من لقائه ) على الخبر الذي قبله .
وأريد بقوله ( آتينا موسى الكتاب ) أرسلنا موسى فذكر إيتائه الكتاب كناية عن إرساله وإدماج ذكر ( الكتاب ) للتنويه بشأن موسى وليس داخلا في تنظير حال الرسول صلى الله عليه وسلم بحال موسى عليه السلام في تكذيب قومه إياه لأن موسى لم يكذبه قومه ألا ترى إلى قوله تعالى ( وجعلناه هدى لبني إسرائيل ) الآيات وليتأتى من وفرة المعاني في هذه الآية ما لا يتأتى بدون ذكر ( الكتاب ) .
وجملة ( فلا تكن في مرية من لقائه ) معترضة وهو اعتراض بالفاء ومثله وارد كثيرا في الكلام كما تقدم عند قوله تعالى ( إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ) الآية في سورة النساء . ويأتي عند قوله تعالى ( هذا فليذوقوه حميم وغساق ) في سورة ص .
والمرية : الشك والتردد . وحرف الظرفية مجاز في شدة الملابسة أي لا يكن الشك محيطا بك ومتمكنا منك أي لا تكن ممتريا في أنك مثله سينالك ما ناله من قومه .
والخطاب يجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم فالنهي مستعمل في طلب الدوام على انتفاء الشك فهو نهي مقصود منه التثبيت كقوله ( فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ) وليس لطلب إحداث انكفاف عن المرية لأنها لم تقع من قبل