( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين [ 58 ] الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون [ 59 ] ) عطف على جملة ( والذين آمنوا بالباطل ) .
وجيء بالموصول للإيماء إلى وجه بناء الخبر أي نبوئهم غرفا لأجل إيمانهم وعملهم الصالح .
والتبوئة : الإنزال والإسكان وقد تقدم عند قوله تعالى ( ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوا صدق ) في سورة يونس .
وقرأ الجمهور ( لنبوئنهم ) بموحدة بعد نون العظمة وهمزة بعد الواو . وقرأ حمزة والكسائي وخلف ( لنبوينهم ) بمثلثة بعد النون وتحتية بعد الواو من أثواه بهمزة التعدية إذا جعله ثاويا أي مقيما في مكان .
والغرف : جمع غرفة وهو البيت المعتلى على غيره . وتقدم عند قوله تعالى ( أولئك يجزون الغرفة ) في آخر سورة الفرقان .
وجملة ( نعم أجر العاملين ) الخ إنشاء ثناه وتعجيب على الأجر الذي أعطوه فلذلك قطعت عن العطف .
وقوله ( الذين صبروا ) خبر مبتدأ محذوف اتباعا للاستعمال والتقدير : هم الذين صبروا . والمراد : صبرهم على إقامة الدين وتحمل أذى المشركين وقد علموا أنهم لاقوه فتوكلوا على ربهم ولم يعبأوا بقطيعة قومهم ولا بحرمانهم من أموالهم ثم فارقوا أوطانهم فرارا بدينهم من الفتن .
ومن اللطائف مقابلة غشيان العذاب الكفار من فوقهم ومن تحت أرجلهم بغشيان النعيم المؤمنين من فوقهم بالغرف ومن تحتهم بالأنهار .
وتقديم المجرور على متعلقه من قوله ( وعلى ربهم يتوكلون ) للاهتمام .
وتقدم معنى التوكل عند قوله تعالى ( فإذا عزمت فتوكل على الله ) في سورة آل عمران .
( وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم [ 60 ] ) عطف على جملة ( كل نفس ذائقة الموت ) فإن الله لما هون بها أمر الموت في مرضاة الله وكانوا ممن لا يعبأ بالموت علم أنهم يقولون في أنفسهم : إنا لا نخاف الموت ولكنا نخاف الفقر والضيعة . واستخفاف العرب بالموت سجية كما أن خشية المعرة من سجاياهم كما بيناه عند قوله تعالى ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ) فأعقب ذلك بأن ذكرهم بأن رزقهم على الله وأنه لا يضيعهم . وضرب لهم المثل برزق الدواب وللمناسبة في قوله تعالى ( إن أرضي واسعة ) من توقع الذين يهاجرون من مكة أن لا يجدوا رزقا في البلاد التي يهاجرون إليها وهو أيضا مناسب لوقوعه عقب ذكر التوكل في قوله ( وعلى ربهم يتوكلون ) وفي الحديث " لو توكلتم على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا " .
ولعل ما في هذه الآية وما في الحديث مقصود به المؤمنون الأولون ؛ ضمن الله لهم رزقهم لتوكلهم عليه في تركهم أموالهم بمكة للهجرة إلى الله ورسوله . وتوكلهم هو حق التوكل أي أكمله وأحزمه فلا يضع نفسه في هذه المرتبة من لم يعمل عملهم .
وتقدم الكلام على ( كأين ) عند قوله تعالى ( وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير ) في سورة آل عمران .
A E وقوله ( وكأين من دابة لا تحمل رزقها ) خبر غير مقصود منه إفادة الحكم بل هو مستعمل مجازا مركبا في لازم معناه وهو الاستدلال على ضمان رزق المتوكلين من المؤمنين . وتمثيله للتقريب بضمان رزق الدواب الكثيرة التي تسير في الأرض لا تحمل رزقها وهي السوائم الوحشية والقرينة على هذا الاستعمال هو قوله ( الله يرزقها وإياكم ) الذي هو استئناف بياني لبيان وجه سوق قوله ( وكأين من دابة لا تحمل رزقها ) ولذلك عطف ( وإياكم ) على ضمير ( دابة ) . والمقصود : التمثيل في التيسير والإلهام للأسباب الموصلة وإن كانت وسائل الرزق مختلفة .
والحمل في قوله ( لا تحمل رزقها ) يجوز أن يكون مستعملا في حقيقته أي تسير غير حاملة رزقها لا كما تسير دواب القوافل حاملة رزقها وهو علفها فوق ظهورها بل تسير تأكل من نبات الأرض : ويجوز أن يستعمل مجازا في التكلف له مثل قول جرير : .
" حملت أمرا عظيما فاصطبرت له أي لا تتكلف لرزقها . وهذا حال معظم الدواب عدا النملة والفارة قيل وبعض الطير كالعقعق