والتعبير عنه بهذه الصلة للتنبيه على خطأ أهل الكتاب إذ جحدوا أن ينزل الله كتابا على غير أنبيائهم ولذلك عقب بقوله ( وأنزل إليكم ) . وقوله ( وأنزل إليكم ) عطف صلة اسم موصول محذوف دل عليه ما قبله . والتقدير : والذي أنزل إليكم أي الكتاب وهو التوراة بقرينة قوله ( إليكم ) . والمعنى : إننا نؤمن بكتابكم فلا ينبغي أن تنحرفوا عنا وهذا كقوله تعالى ( قل يأهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن أمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل ) وكذلك قوله ( وإلهنا وإلهكم واحد ) تذكير بأن المؤمنين واليهود يؤمنون بإله واحد . فهذان أصلان يختلف فيهما كثير من أهل الأديان .
وقوله ( ونحن له مسلمون ) مراد به كلا الفريقين فريقر المتكلمين وفريق المخاطبين فيشمل المسلمين وأهل الكتاب فيكون المراد بوصف ( مسلمون ) أحد إطلاقيه وهو إسلام الوجه إلى الله أي عدم الإشراك به أي وكلانا مسلمون لله تعالى لا نشرك معه غيره . وتقديم المجرور على عامله في قوله ( له مسلمون ) لإفادة الاختصاص تعريضا بالمشركين الذين لم يفردوا الله بالإلهية .
( وكذلك أنزلنا إليك الكتب فالذين أتينهم الكتب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون [ 47 ] ) هذا عود إلى مجادلة المشركين في إثبات أن القرآن منزل من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم .
فالمعنى : ومثل ذلك التنزيل البديع أنزلنا إليك ا لكتاب فهو بديع في فصاحته وشرف معانيه وعذوبة تراكيبه وارتفاعه على كل كلام من كلام البلغاء وفي تنجيمه وغير ذلك . وقد تقدم بيان مثل هذه الإشارة عند قوله تعالى ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) في سورة البقرة .
وقد تفرع على بداعة تنزيله الإخبار بأن الذين علمهم الله الكتاب يؤمنون به أي يصدقون أنه من عند الله لأنهم أدرى بأساليب الكتب المنزلة على الرسل والأنبياء وأعلم بسمات الرسل وشمائلهم .
وإنما قال ( فالذين أتيناهم الكتاب ) دون أن يقول : فأهل الكتاب لأن في ( أتيناهم الكتاب ) تذكيرا لهم بأنهم أمناء عليه كما قال تعالى ( بما استحفظوا من كتاب الله ) .
وجيء بصيغة المضارع للدلالة على أنه سيقع في المستقبل أو للدلالة على تجدد إيمان هذا الفريق به أي إيمان من آمن منهم مستمر يزداد عدد المؤمنين يوما فيوما .
A E والإشارة ب ( هؤلاء ) إلى أهل مكة بتنزيلهم منزلة الحاضرين عند نزول الآية لأنهم حاضرون في الذهن بكثرة ممارسة أحوالهم وجدالهم . وهكذا اصطلاح القرآن حيث يذكر ( هؤلاء ) بدون سبق ما يصلح للإشارة إليه وهذا قد ألهمني الله إليه وتقدم عند قوله تعالى ( فإن يكفر بها هؤلاء ) في سورة الأنعام . والمعنى : ومن مشركي أهل مكة من يؤمن به أي بأن القرآن منزل من الله وهؤلاء هم الذين أسلموا والذين يسلمون من بعد ومنهم من يؤمن به في باطنه ولا يظهر ذلك عنادا وكبرا مثل الوليد بن المغيرة .
وقد أشار قوله تعالى ( وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون ) إلى أن من هؤلاء الذين يؤمنون بالقرآن من أهل الكتاب وأهل مكة من يكتم إيمانه جحودا منهم لأجل تصلبهم في الكفر .
فالتعريف في ( الكافرون ) للدلالة على معنى الكمال في الوصف المعرف أي إلا المتوغلون في الكفر الراسخون فيه ليظهر وجه الاختلاف بين ( ما يجحد ) وبين ( الكافرون ) إذ لولا الدلالة على معنى الكمال لصار معنى الكلام : وما يجحد إلا الجاحدون .
وعبر عن الكتاب بالآيات لأنه آيات دالة على أنه من عند الله بسبب إعجازه وتحديه وعجز المعاندين عن الإتيان بسورة مثله .
وهذا يتوجه ابتداء إلى المشركين لأن جحودهم واقع وفيه تهيئة لتوجيهه إلى من عسى أن يجحد به من أهل الكتاب من دون أن يواجههم بأنهم كافرون لأنه لم يعرف منهم ذلك الآن فإن فعلوه فقد أوجبوا ذلك على أنفسهم .
( وما كنت تتلوا من قبله من كتب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون [ 48 ] ) هذا استدلال بصفة الأمية المعروف بها الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على أنه موحى إليه من الله أعظم دلالة وقد ورد الاستدلال بها في القرآن في مواضع كقوله ( ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ) وقوله ( فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون )