والضياء : النور . وهو في هذا العالم من شعاع الشمس قال تعالى ( هو الذي جعل الشمس ضياء ) . وتقدم في سورة يونس . وعبر بالضياء دون النهار لأن ظلمة الليل قد تخف قليلا بنور القمر فكان ذكر الضياء إيماء إلى ذلك .
وفي تعدية فعل ( يأتيكم ) في الموضعين إلى ضمير المخاطبين إيماء إلى أن إيجاد الضياء وإيجاد الليل نعمة على الناس . وهذا إدماج للامتنان في أثناء الاستدلال على الانفراد بالإلهية . وإذ قد استمر المشركون على عبادة الأصنام بعد سطوع هذا الدليل وقد علموا أن الأصنام لا تقدر على إيجاد الضياء . جعلوا كأنهم لا يسمعون هذه الآيات التي أقامت الحجة الواضحة على فساد معتقدهم ففرع على تلك الحجة الاستفهام الإنكاري عن انتفاء سماعهم بقوله ( أقلا تسمعون ) أي أفلا تسمعون الكلام المشتمل على التذكير بأن الله هو خالق الليل والضياء ومنه هذه الآية . وليس قوله ( أفلا تسمعون ) تذييلا .
وكرر الأمر بالقول في مقام التقرير لأن التقرير يناسبه التكرير مثل مقام التوبيخ ومقام التهويل .
وعكس الاستدلال الثاني بفرض أن يكون النهار وهو انتشار نور الشمس سرمدا بأن خلق الله الأرض غير كروية الشكل بحيث يكون شعاع الشمس منتشرا على جميع سطح الأرض دوما .
ووصف الليل ب ( تسكنون فيه ) إدماج للمنة في أثناء الاستدلال للتذكير بالنعمة المشتملة على نعم كثيرة وتلك هي نعمة السكون فيه فإنها تشمل لذة الراحة ولذة الخلاص من الحر ولذة استعادة نشاط المجموع العصبي الذي به التفكير والعمل ولذة الأمن من العدو .
ولم يوصف الضياء بشيء لكثرة منافعه واختلاف أنواعها .
وتفرع على هذا الاستدلال أيضا تنزيلهم منزلة من لا يبصرون الأشياء الدالة على عظيم صنع الله وتفرده بصنعها وهي منهم بمرأى الأعين .
وناسب السمع دليل فرض سرمدة الليل لأن الليل لو كان دائما لم تكن للناس رؤية فإن رؤية الأشياء مشروطة بانتشار شيء من النور على سطح الجسم المرئي فالظلمة الخالصة لا ترى فيها المرئيات . ولذلك جيء في جانب فرض دوام الليل بالإنكار على عدم سماعهم وجيء في جانب فرض دوام النهار بالإنكار على عدم إبصارهم .
وليس قوله ( أفلا تبصرون ) تذييلا .
( ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون [ 73 ] ) تصريح بنعمة تعاقب الليل والنهار على الناس بقوله ( لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ) وذلك مما دلت عليه الآية السابقة بطريق الإدماج بقوله ( يأتيكم ) وبقوله ( تسكنون فيه ) كما تقدم آنفا .
وجملة ( جعل لكم الليل والنهار ) الخ معطوفة على جملة ( أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا ) .
و ( من ) تبعيضية فإن رحمة الله بالناس حقيقية كلية لها تحقق في وجود أنواعها وآحادها العديدة والمجرور ب ( من ) يتعلق بفعل ( جعل لكم الليل ) وكذلك يتعلق به ( لكم ) والمقصود إظهار أن هذا رحمة من الله وأنه بعض من رحمته التي وسعت كل شيء ليتذكروا بهما نعما أخرى .
وقدم المجرور ب ( من رحمته ) على عامله للاهتمام بمنة الرحمة .
وقد سلك في قوله ( لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ) طريقة اللف والنشر المعكوس فيعود ( لتسكنوا فيه ) إلى الليل ويعود ( ولتبتغوا من فضله ) إلى النهار والتقدير : ولتبتغوا من فضله فيه فحذف الضمير وجاره إيجازا اعتمادا على المقابلة .
والابتغاء من فضل الله : كناية عن العمل والطلب لتحصيل الرزق قال تعالى ( وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ) . والرزق : فضل من الله . وتقدم في قوله تعالى ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) في سورة البقرة . ولام ( لتسكنوا ) ولام ( ولتبتغوا ) للتعليل ومدخولاهما علتان للجعل المستفاد من فعل ( جعل ) .
وعطف على العلتين رجاء شكرهم على شكرهم على هاتين النعمتين اللتين هما من جملة رحمته بالناس فالشأن أن يتذكروا بذلك مظاهر الرحمة الربانية وجلائل النعم فيشكروه بإفراده بالعبادة . وهذا تعريض بأنهم كفروا فلم يشكروا .
A E وقرأ الجمهور ( أرأيتم ) بألف بعد الراء تخفيفا لهمزة رأى . وقرأ الكسائي بحذف الهمزة زيادة في التخفيف وهي لغة