والفاء في ( فكذبوه ) فصيحة أي فتبين أنهم بقولهم : سواء علينا ذلك أوعظت الخ قد كذبوه فأهلكناهم .
وقوله ( إن في ذلك لآية ) إلى آخره هو مثل نظيره في قصة نوح .
( كذبت ثمود المرسلين [ 141 ] إذ قال لهم أخوهم صلح ألا تتقون [ 142 ] إني لكم رسول أمين [ 143 ] فاتقوا الله وأطيعون [ 144 ] وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العلمين [ 145 ] ) .
موقع هذا الجملة استئناف تعداد وتكرير كما تقدم في قوله ( كذبت عاد المرسلين ) . والكلام على هذه الآيات مثل الكلام على نظيرها في قصة نوح وثمود قد كذبوا المرسلين لأنهم كذبوا صالحا وكذبوا هودا لأن صالحا وعظهم بعاد في قوله ( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد ) في سورة الأعراف وبتكذيبهم هود كذبوا بنوح أيضا لأن هودا ذكر قومه بمصير قوم نوح في آية ( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ) .
A E وتقديم ذكر ثمود وصالح عنده قوله تعالى ( وإلى ثمود أخاهم صالحا ) في سورة الأعراف وكان صالح معروفا بالأمانة لأنه لا يرسل رسول إلا وهو معروف بالفضائل و ( الله أعلم حيث يجعل رسالاته ) وقد دل على هذا المعنى قولهم ( إنما أنت من المسحرين ) المقتضي تغيير حاله عما كان عليه وهو ما حكاه الله عن قومه ( قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ) في سورة هود . وحذف ياء المتكلم من ( أطيعون ) هو مثل نظائره المتقدمة آنفا .
( أتتركون في ما هاهنا آمنين [ 146 ] في جنت وعيون [ 147 ] وزروع ونخل طلعها هضيم [ 148 ] وتنحتون من الجبال بيوتا فرهين [ 149 ] فاتقوا الله وأطيعون [ 150 ] ولا تطيعوا أمر المسرفين [ 151 ] الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون [ 152 ] ) .
كانوا قد أعرضوا عن عبادة الله تعالى وأنكروا البعث وغرهم أيمة كفرهم في ذلك فجاءهم صالح عليه السلام رسولا يذكرهم بنعمة الله عليهم بما مكن لهم من خيرات وما سخر لهم من أعمال عظيمة ونزل حالهم منزلة من يظن الخلود ودوام النعمة فخاطبهم بالاستفهام الإنكاري التوبيخي وهو في المعنى إنكار على ظنهم ذلك . وسلط الإنكار على فعل الترك لأن تركهم على تلك النعم لا يكون . فكان إنكار حصوله مستلزما إنكار اعتقاده .
وهذا الكلام تعليل للإنكار الذي في قوله ( ألا تتقون ) لأن الإنكار عليهم دوام حالهم يقتضي أنهم مفارقون هذه الحياة وصائرون إلى الله .
وفيه حث على العمل لاستبقاء تلك النعم بأن يشكروا الله عليها كما قال صاحب الحكم " من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيدها بعقالها " .
و ( هاهنا ) إشارة إلى بلادهم أي في جميع ما تشاهدونه وهذا إيجاز بديع . و ( آمنين ) حال مبنية لبعض ما أجمله قوله ( فيما هاهنا ) . وذلك تنبيه على نعمة عظيمة لا يدل عليها اسم الإشارة لأنها لا يشار إليها وهي نعمة الأمن التي هي من أعظم النعم ولا يتذوق طعم النعم الأخرى إلا بها .
وقوله ( في جنات ) ينبغي أن يعلق ب ( آمنين ) ليكون مجموع ذلك تفصيلا لإجمال اسم الإشارة أي اجتمع لهم الأمن ورفاهية العيش . والجنات : الحوائط التي تشجر بالنخيل والأعناب .
والطلع : وعاء يطلع من النخل فيه ثمر النخلة في أول أطواره يخرج كنصل السيف في باطنه شماريخ القنو ويسمى هذا الطلع الكم " بكسر الكاف " وبعد خروجه بأيام ينفلق ذلك الوعاء عن الشماريخ وهي الأغصان التي فيها الثمر كحب صغير ثم يغلظ ويصير بسرا ثم تمرا .
والهضيم بمعنى المهضوم وأصل الهضم شدخ الشيء حتى يلين واستعبر هنا للدقيق الضامر كما يقال : امرأة هضيم الكشح . وتلك علامة على أنه يخرج تمرا جيدا . والنخل الذي يثمر تمرا جيدا يقال له : النخل الإناث وضده فحاحيل وهي جمع فحال " بضم الفاء وتشديد الحاء المهملة " أي ذكر وطلعه غليظ وتمره كذلك .
وخص النخل بالذكر مع أنه مما تشمله الجنات لقصد بيان جودته بأن طلعه هضيم .
( وتنحتون ) عطف على ( آمنين ) أي وناحتين عبر عنه بصيغة المضارع لاستحضار الحالة في نحتهم بيوتا من الجبال . وتقدم ذلك في سورة الأعراف