وفي تلك النعوت إشارة إلى أنها مهيئات للكمال النفساني فقد جمعت كلمات إبراهيم عليه السلام مع دلالتها على انفراد الله بالتصرف في تلك الأفعال التي هي أصل أطوار الخلق الجسماني دلالة أخرى على جميع أصول النعم من أول الخلق إلى الخلق الثاني وهو البعث فذكر خلق الجسد وخلق العقل وإعطاء ما به بقاء المخلوق وهو الغذاء والماء وما يعتري المرء من اختلال المزاج وشفائه وذكر الموت الذي هو خاتمة الحياة الأولى وأعقبه بذكر الحياة الثانية للإشارة إلى أن الموت حالة لا يظهر كونها نعمة إلا بغوص فكر ولكن وراءه حياة هي نعمة لا محالة لمن شاء أن تكون له نعمة .
وحذفت ياآت المتكلم من ( يهدين ويسقين ويشفين ويحيين ) لأجل التخفيف ورعاية الفاصلة لأنها يوقف عليها وفواصل هذه السورة أكثرها بالنون الساكنة وقد تقدم ذلك في قوله ( فأخاف أن يقتلون ) في قصة موسى المتقدمة .
( رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين [ 83 ] واجعل لي لسان صدق في الآخرين [ 84 ] واجعلني من ورثة جنة النعيم [ 85 ] واغفر لأبي إنه كان من الضالين [ 86 ] ولا تخزني يوم يبعثون [ 87 ] يوم لا ينفع مال ولا بنون [ 88 ] إلا من أتى الله بقلب سليم [ 89 ] ) .
لما كان آخر مقالة في الدعوة إلى الدين الحق متضمنا دعاء بطلب المغفرة تخلص منه إلى الدعاء بما فيه جمع الكمال النفساني بالرسالة وتبليغ دعوة الخلق إلى الله فإن الحجة التي قام بها في قومه بوحي من الله كما قال تعالى ( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ) فكان حينئذ في حال قرب من الله . وجهر بذلك في ذلك الجمع لأنه عقب الانتهاء من أقدس واجب وهو الدعوة إلى الدين فهو ابتهال أرجى للقبول كالدعاء عقب الصلوات وعند إفطار الصائم ودعاء يوم عرفة والدعاء عند الزحف وكلها فراغ من عبادات . ونظير ذلك دعاؤه عند الانتهاء من بناء أساس الكعبة المحكي في قوله تعالى ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ) إلى قوله ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ) إلى ( إنك أنت العزيز الحكيم ) وابتدأ بنفسه في أعمال هذا الدين كما قال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام ( وأنا أول المؤمنين ) وكما أمر رسوله محمد A إذ قال ( وأمرت لأن أكون أول المسلمين ) .
A E وللأوليات في الفضائل مرتبة مرغوبة قال سعد بن أبي وقاص ( أنا أول من رمى بسهم في سبيل الله ) . وبضد ذلك أوليات المساوئ ففي الحديث ( ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ذلك لأنه أول من سن القتل ) .
وقد قابل إبراهيم في دعائه النعم الخمس التي أنعم الله بها عليه المذكورة في قوله ( الذي خلقني فهو يهدين ) إلى قوله ( يوم الدين ) الراجعة إلى مواهب حسية بسؤال خمس نعم راجعة إلى الكمال النفساني كما أومأ إليه قوله ( إلا من أتى الله بقلب سليم ) وأقحم بين طلباته سؤاله المغفرة لأبيه لأن ذلك داخل في قوله ( ولا تخزني يوم يبعثون ) .
فابتداء دعائه بأن يعطى حكما . هو الحكمة والنبوءة قال تعالى عن يوسف ( آتيناه حكما وعلما ) أي النبوءة وقد كان إبراهيم حين دعا نبيا فلذلك كان السؤال طلبا للازدياد لأن مراتب الكمال لا حد لها بأن يعطى الرسالة مع النبوءة أو يعطى شريعة مع الرسالة أو سأل الدوام على ذلك .
ثم ارتقى فطلب إلحاقه بالصالحين . ولفظ الصالحين يعم جميع الصالحين من الأنبياء والمرسلين فيكون قد سأل بلوغ درجات الرسل أولي العزم نوح وهود وصالح والشهداء والصالحين فجعل الصالحين آخرا لأنه يعم فكان تذييلا .
ثم سأل بقاء ذكر له حسن في الأمم والأجيال الآتية من بعده . وهذا يتضمن سؤال الدوام والختام على الكمال وطلب نشر الثناء عليه وهذا ما تتغذى به الروح من بعد موته لأن الثناء عليه يستعدي دعاء الناس له والصلاة عليه والتسليم جزاء على ما عرفوه من زكاء نفسه