والمحدث : الجديد أي من ذكر بعد ذكر يذكرهم بما أنزل من القرآن من قبله فالمعنى المستفاد من وصفه بالمحدث غير المعنى المستفاد من إسناد صيغة المضارع في قوله ( ما يأتيهم من ذكر ) . فأفاد الأمران أنه ذكر متجدد مستمر وأن بعضه يعقب بعضا ويؤيده . وقد تقدم في سورة الأنبياء قوله ( ما يأتيهم من ذكر ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم ) .
وذكر اسم الرحمان هنا دون وصف الرب كما في سورة الأنبياء لأن السياق هنا لتسلية النبي A على إعراض قومه فكان في وصف مؤتي الذكر بالرحمان تشنيع لحال المعرضين وتعريض لغباوتهم أن يعرضوا عما هو رحمة لهم فإذا كانوا لا يدركون صلاحهم فلا تذهب نفسك حسرات على قوم أضاعوا نفعهم وأنت قد أرشدتهم إليه وذكرتهم كما قال المثل : ( لا يحزنك دم هراقه أهله ) وقال النابغة : .
فإن تغلب شقاوتكم عليكم ... فإني في صلاحكم سعيت وفي الإتيان بفعل ( كانوا ) وخبره دون أن يقال : إلا أعرضوا إفادة أن إعراضهم راسخ فيهم وأنه قديم مستمر إذ أخبر عنهم قبل ذلك بقوله ( أن لا يكونوا مؤمنين ) فانتفاء كون إيمانهم واقعا هو إعراض منهم عن دعوة الرسول التي طريقها الذكر بالقرآن فإذا أتاهم ذكر بعد الذكر الذي لم يؤمنوا بسببه وجدهم على إعراضهم القديم .
و ( من ) في قوله ( من ذكر ) مؤكدة لعموم نفي الأحوال .
و ( من ) التي في قوله ( من الرحمان ) ابتدائية .
والاستثناء من أحوال عامة فجملة ( كانوا عنه معرضين ) في موضع الحال من ضمير ( يأتيهم من ذكر ) . وتقدم المجرور لرعاية الفاصلة .
( فقد كذبوا فسيأتيهم أنبؤا ما كانوا به يستهزءون [ 6 ] ) .
فاء ( فقد كذبوا ) فصيحة أي فقد تبين أن إعراضهم إعراض تكذيب بعد الإخبار بأن سنتهم الإعراض عن الذكر الآتي بعضه عقب بعض فإن الإعراض كان لأنهم قد كذبوا بالقرآن . وأما الفاء في قوله ( فسيأتيهم ) فلتعقيب الإخبار بالوعيد بعد الإخبار بالتكذيب .
والأنباء : جمع نبأ وهو الخبر عن الحدث العظيم وتقدم عند قوله تعالى ( ولقد جاءك من نبأ المرسلين ) في سورة الأنعام .
والأنباء : ظهور صدقها وليس المراد الإتيان هنا البلوغ كالذي في قوله ( وهل أتاك نبأ الخصم ) لأن بلوغ الأنباء قد وقع فلا يحكى بعلامة الاستقبال في قوله ( فسيأتيهم ) .
و ( ما ) في قوله ( ما كانوا به يستهزئون ) يجوز أن تكون موصولة فيجوز أن يكون ما صدقها القرآن وذلك كقوله تعالى ( ولا تتخذوا آيات الله هزوا ) . وجيء في صلته بفعل ( يستهزئون ) دون ( يكذبون ) لتحصل فائدة الإخبار عنهم بأنهم كذبوا به وأستهزأوا به وتكون الباء في ( به ) لتعدية فعل ( يستهزئون ) والضمير المجرور عائدا إلى ( ما ) الموصولة وأنباؤه أخباره بالوعيد . ويجوز ان يكون ما صدق ( ما ) جنس ما عرفوا باستهزائهم به وهو التوعد كانوا يقولون : متى هذا الوعد ؟ ونحو ذلك .
وإضافة ( أنباء ) إلى ( ما كانوا به يستهزئون ) على هذا إضافة بيانية أي ما كانوا به يستهزئون الذي هو أنباء ما سيحل بهم .
وجمع الأنباء على هذا باعتبار أنهم استهزأوا بأشياء كثيرة منها البعث ومنها العذاب في الدنيا ومنها نصر المسلمين عليهم ( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ) ومنها فتح مكة ومنها عذاب جهنم وشجرة الزقوم وكان أبو جهل يقول : زقمونا استهزاء .
ويجوز كون ( ما ) مصدرية أي أنباء كون استهزائهم أي حصوله وضمير ( به ) عائدا إلى معلوم من المقام وهو القرآن أو الرسول A .
والمراد بأنباء استهزائهم أنباء جزائه وعاقبته وهو ما توعدهم به القرآن في غير ما آية .
والقول في إقحام فعل ( كانوا ) هنا كالقول في إقحامه في قوله آنفا ( كانوا عنه معرضين ) ولكن أوثر الإتيان بالفعل المضارع وهو ( يستهزئون ) دون اسم الفاعل كالذي في قوله ( كانوا عنه معرضين ) لأن الاستهزاء يتجدد عند تجدد وعيدهم بالعذاب وأما الإعراض فمتمكن منهم .
ومعنى ( فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ) على الوجه الأول أن يكون الإتيان بمعنى التحقق كما في قوله ( أتى أمر الله ) أي تحقق أي سوف تتحقق أخبار الوعيد الذي توعدهم به القرآن الذي كانوا يستهزئون به