و ( الحي الذي لا يموت ) هو الله تعالى . وعدل عن اسم الجلالة إلى هذين الوصفين لما يؤذن به من تعليل الأمر بالتوكل عليه لأنه الدائم فيفيد ذلك معنى حصر التوكل في الكون عليه فالتعريف في ( الحي ) للكامل أي الكامل حياته لأنها واجبة باقية مستمرة وحياة غيره معرضة للزوال بالموت ومعرضة لاختلال أثرها بالذهول كالنوم ونحوه فإنه من جنس الموت فالتوكل على غيره معرض للاختلال وللانخرام . وفي ذكر الوصفين تعريض بالمشركين إذ ناطوا آمالهم بالأصنام وهي أموات غير أحياء .
وفي الآية إشارة إلى أن المرء الكامل لا يثق إلا بالله لأن التوكل على الأحياء المعرضين للموت وإن كان قد يفيد أحيانا لكنه لا يدوم .
وأما أمره بالتسبيح فهو تنزيه الله عما لا يليق به وأول ذلك الشركة في الإلهية أي إذا أهمك أمر إعراض المشركين عن دعوة الإسلام فعليك نفسك فنزه الله .
والباء في ( بحمده ) للمصاحبة أي سبحه تسبيحا مصاحبا للثناء عليه بما هو أهله . فقد جمع له في هذا الأمر التخلية والتحلية مقدما التخلية لأن شأن الإصلاح أن يبدأ بإزالة النقص .
وأمر النبي A يشمل الأمة ما لم دليل على الخصوصية .
وجملة ( وكفى به بذنوب عباده خبيرا ) اعتراض في آخر الكلام فيفيد معنى التذييل لما فيه من الدلالة على عموم علمه تعالى بذنوب الخلق ومن ذلك أحوال المشركين الذين هم غرض الكلام . ففي ( ذنوب عباده ) عمومان عموم ذنوبهم كلها لإفادة الجمع المضاف عموم إفراد المضاف وعموم الناس لإضافة ( عباد ) إلى ضمير الجلالة أي جميع عباده مع ما في صيغة ( خبير ) من شدة العلم وهو يستلزم العموم فكان كعموم ثالث . والكفاية : الإجزاء وفي فعل ( كفى ) لإفادة أنه لا يحتاج إلى غيره وهو مستعمل في الأمر بالاكتفاء بتفويض الأمر إليه .
والباء لتأكيد إسناد الفعل إلى الفاعل . وقد كثر دخول باء التأكيد بعد فعل الكفاية على فاعله أو مفعوله وتقدم في قوله تعالى ( كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) في سورة الإسراء . و ( خبيرا ) حال من ضمير ( به ) أي كفى به من حيث الخبرة .
والعلم بالذنوب كناية عن لازمه وهو أن يجازيهم عن ذنوبهم والشرك جامع الذنوب . وفي الكلام أيضا تعريض بتسلية الرسول A على ما يلاقيه من أذاهم .
( الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فسئل به خبيرا [ 59 ] ) أجريت هذه الصلة وصفا ثانيا ل ( الحي الذي لا يموت ) لاقتضائها سعة العلم وسعة القدرة وعظيم المجد فصاحبها حقيق بأن يتوكل عليه ويفوض أمر الجزاء إليه . وهذا تخلص إلى العود إلى الاستدلال على تصرف الله تعالى بالخلق .
وتقدم الكلام على خلق السماوات والأرض في ستة أيام في سورة البقرة وعلى الاستواء في سورة الأعراف .
و ( الرحمان ) خبر مبتدأ محذوف أي هو الرحمان . وهذا من حذف المسند إليه الغالب في الاستعمال عندما تتقدم أخبار أو أوصاف لصاحبها ثم يراد الإخبار عنه بما هو إفصاح عن وصف جامع لما مضى أو أهم في الغرض مما تقدمه فإن وصف الرحمان أهم في الغرض المسوق له الكلام وهو الأمر بالتوكل عليه فإنه وصف يقتضي أنه يدبر أمور من توكل عليه بقوي الإسعاف .
وفرع على وصفه ب ( الرحمان ) قوله ( فاسأل به خبيرا ) للدلالة على أن في رحمته من العظمة والشمول ما لا تفي فيه العبارة فيعدل عن زيادة التوصيف إلى الحوالة على العليم بتصاريف رحمته مجرب لها متلق أحاديثها ممن علمها وجربها .
وتنكير ( خبيرا ) للدلالة على العموم فلا يظن خبيرا معينا لأن النكرة إذا تعلق بها فعل اقتضت عموما بدليل أي خبير سألته أعلمك .
وهذا يجري مجرى المثل ولعله من مبتكرات القرآن نظير قول العرب ( على الخبير سقطت ) يقولها العارف بالشيء إذا سئل عنه . والمثلان وإن تساويا في عدد الحروف المنطوق بها فالمثل القرآني أفصح لسلامته من ثقل تلاقي القاف والطاء والتاء في ( سقطت ) . وهو أيضا أشرف لسلامته من معنى السقوط وهو أبلغ معنى لما فيه من عموم كل خبير بخلاف قولهم : على الخبير سقطت لأنها إنما يقولها الواحد المعين . وقريب من معنى ( فأسأل خبير ) قول النابغة : .
هلا سألت بني ذبيان ما حسبي ... إذا الدخان تغشى الأشمط البرما إلى قوله :