ويجوز كون الكفور مأخوذا من كفر النعمة وتكون المبالغة باعتبار آثار الغفلة عن الشكر وحينئذ يكون الاستغراق حقيقيا .
A E ( لكل امة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم [ 67 ] ) هذا متصل في المعنى بقوله ( ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم ) الآية . وقد فصل بين الكلامين ما اقتضى الحال استطراده من قوله ( وبشر المحسنين إن الله يدافع عن الذين آمنوا ) إلى هنا فعاد الكلام إلى الغرض الذي في قوله ( ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله ) الآية ليبنى عليه قوله ( فلا ينازعنك في الأمر ) . فهذا استدلال على توحيد الله تعالى بما سبق من الشرائع لقصد إبطال تعدد الآلهة بان الله ما جعل لأهل كل ملة سبقت إلا منسكا واحدا يتقربون فيه إلى الله لأن المتقرب إليه واحد . وقد جعل المشركون مناسك كثيرة فلكل صنم بيت يذبح فيه مثل الغبغب للعزى قال النابغة : .
" وما هريق على الأنصاب من جسد " أي دم " . وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى ( ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا ) كما تقدم آنفا .
فالجملة استئناف . والمناسبة ظاهرة ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف كما عطفت نظيرتها المتقدمة .
والمنسك " بفتح الميم وفتح السين " : اسم مكان النسك بصمهما كما تقدم . وأصل النسك العبادة ويطلق على القربان فالمراد بالمنسك هنا مواضع الحج بخلاف المراد به في الآية السابقة فهو موضع القربان . والضمير في ( ناسكوه ) منصوب على نزع الخافض أي ناسكون فيه .
وفي الموطأ : " أن قريشا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة بقزح وكانت العرب وغيرهم يقفون بعرفة فكانوا يتجادلون بقول هؤلاء : نحن أصوب ويقول هؤلاء : نحن أصوب فقال الله تعالى ( لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه ) الآية فهذا الجدال فيما نرى والله أعلم وقد سمعت ذلك من أهل العلم اه .
قال الباجي في المنتقى : " وهو قول ربيعة " . وهذا يقتضي أن أصحاب هذا التفسير يرون الآية قد نزلت بعد فرض الحج في الإسلام وقبل أن يمنع المشركون منه أي نزلت في سنة تسع . والأظهر خلافه كما تقدم في أول السورة .
وفرع على هذا الاستدلال أنهم لم تبق لهم حجة ينازعون بها النبي A في شأن التوحيد بعد شهادة الملل السابقة كلها فالنهي ظاهرة موجه إلى النبي A لأن ما أعطيه من الحجج كاف في قطع منازعة معارضيه فالمعارضون هم المقصود بالنهي ولكن لما كان سبب نهيهم هو ما عند الرسول A من الحجج وجه إليه النهي عن منازعتهم إياه كأنه قيل : فلا تترك لهم ما ينازعونك به وهو من باب قول العرب : لا أعرفنك تفعل كذا أي لا تفعل فاعرفك فجعل المتكلم النهي موجها إلى نفسه . والمراد نهي السامع عن أسبابه وهو نهي للغير بطريق الكناية .
وقال الزجاج : هو نهي للرسول عن منازعتهم لأن صيغة المفاعلة تقتضي حصول الفعل من جانبي فاعله ومفعوله . فيصح نهي كل من الجانبين عنه . وإنما أسند الفعل هنا لضمير المشركين مبالغة في نهي النبي A عن منازعته إياهم كإثبات الشيء بدليله . وحاصل معنى هذا الوجه أنه أمر للرسول بالإعراض عن مجادلتهم بعد ما سيق لهم من الحجج .
واسم ( الأمر ) هنا مجمل مراد به التوحيد بالقرينة ويحتمل أن المشركين كانوا ينازعون في كونهم على ضلال بأنهم على ملة إبراهيم وأن النبي A قرر الحج الذي هو من مناسكهم فجعلوا ذلك ذريعة إلى ادعاء أنهم على الحق وملة إبراهيم . فكان قوله تعالى ( لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه ) كشفا لشبهتهم بان الحج منسك حق وهو رمز التوحيد وأن ما عداه باطل طارئ عليه فلا ينازعن في أمر الحج بعد هذا وهذا المحمل هو المناسب لتناسق الضمائر العائدة على المشركين مما تقدم إلى قوله ( وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير ) ولأن هذه السورة نزل بعضها بمكة في آخر مقام النبي A بها وبالمدينة في أول مقامه بها فلا منازعة بين النبي وبين أهل الكتاب يومئذ فيبعد تفسير المنازعة بمنازعة أهل الكتاب .
A E