والتسخير : تسهيل الانتفاع بدون مانع وهو يؤذن بصعوبة الانتفاع لولا ذلك التسخير . وأصله تسهيل الانتفاع بما فيه إرادة التمنع مثل تسخير الخادم وتسهيل استخدام الحيوان الداجن من الخيل والإبل . والبقر والغنم ونحوها بان جعل الله فيها طبع الخوف من الإنسان مع تهيئتها للإلف بالإنسان . ثم أطلق على تسهيل الانتفاع بما في طبعه أو في حاله ما يعذر الانتفاع به لولا ما ألهم الله إليه الإنسان من وسائل التغلب عليها بتعرف نواميسه وأحواله وحركاته وأوقات ظهوره وبالاحتيال على تملكه مثل صيد الوحش ومغاصات اللؤلؤ والمرجان ومثل آلات الحفر والنقر للمعادن ومثل التشكيل في صنع الفلك والعجل . ومثل التركيب والتصهير في صنع البواخر والمزجيات والصياغة . ومثل الإرشاد إلى ضبط أحوال المخلوقات العظيمة من الشمس والقمر والكواكب والأنهار والأودية والأنواء والليل والنهار باعتبار كون تلك الأحوال تظهر على وجه الأرض وما لا يحصى مما ينتفع به الإنسان مما على الأرض فكل ذلك داخل في معنى التسخير .
وقد تقدم القول في التسخير آنفا في هذه السورة . وتقدم في سورة الأعراف وسورة إبراهيم وغيرهما . وفي كلامنا هنا زيادة إيضاح لمعنى التسخير .
وجملة ( تجري في البحر بأمره ) في موضع الحال من ( الفلك ) . وإنما خص هذا بالذكر لأن ذلك الجري في البحر هو مظهر التسخير إذ لولا الإلهام إلى صنعها على الصفة المعلومة لكان حظها من البحر الغرق .
وقوله ( بأمره ) هو أمر التكوين إذ جعل البحر صالحا لحملها وأوحى إلى نوح " عليه السلام " معرفة صنعها ثم تتابع إلهام الصناع لزيادة إتقانها .
والإمساك : السد وهو ضد الإلقاء . وقد ضمن معنى المنع هنا وفي قوله تعالى ( إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ) فيقدر حرف جر لتعدية فعل الإمساك بعد هذا التضمين فيقدر ( عن ) أو ( من ) .
ومناسبة عطف إمساك السماوات على تسخير ما في الأرض وتسخير الفلك أن إمساك السماء عن أن تقع على الأرض ضرب من التسخير لما في عظمة المخلوقات السماوية من مقتضيات تغلبها على المخلوقات الأرضية وحطمها إياها لولا ما قدر الله تعالى لكل نوع منها من سنن ونظم تمنع من تسلط بعضها على بعض كما أشار إليه قوله تعالى ( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ) . فكما سخر الله للناس ما ظهر على وجه الأرض من موجودات مع ما في طبع كثير منها من مقتضيات إتلاف الإنسان وكما سخر لهم الأحوال التي تبدو للناس من مظاهر الأفق مع كثرتها وسعتها وتباعدها ومع ما في تلك الأحوال من مقتضيات تعذر الضبط كذلك سخر لمصلحة الناس ما في السماوات من الموجودات بالإمساك المنظم المنوط بما قدره الله كما أشار إليه قوله ( إلا يإذنه ) أي تقديره .
ولفظ ( السماء ) في قوله ( ويمسك السماء ) يجوز أن يكون بمعنى ما قابل الأرض في اصطلاح الناس فيكون كلا شاملا للعوالم العلوية كلها التي لا نحيط بها علما كالكواكب السيارة وما الله أعلم به وما يكشفه للناس في متعاقب الأزمان .
ويكون وقوعها على الأرض بمعنى الخرور والسقوط فيكون المعنى أن الله بتدبير علمه وقدرته جعل للسماء نظاما يمنعها من الخرور على الأرض فيكون قوله ( ويمسك السماء ) امتنانا على الناس بالسلامة مما يفسد حياتهم ويكون قوله ( إلا بإذنه ) احتراسا جمعا بين الامتنان والتخويف ويكون الناس شاكرين مستزيدين من النعم خائفين من غضب ربهم أن يأذن لبعض السماء بالوقوع على الأرض . وقد أشكل الاستثناء بقوله ( إلا بإذنه ) فقيل في دفع الإشكال : إن معناه إلا يوم القيامة بأذن الله لها في الوقوع على الأرض . ولكن لم يرد في الآثار أنه يقع سقوط السماء وإنما ورد تشقق السماء وانفطارها . وفيما جعلنا ذلك احتراسا دفع للإشكال لأن الاحتراس أمر فرضي فلا يقتضي الاستثناء وقوع المستثنى .
ويجوز أن يكون لفظ ( السماء ) بمعنى المطر كقول معاوية بن مالك : .
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا A E