وعطف ( وأن الله سميع بصير ) على السبب للإشارة إلى علم الله بالأحوال كلها فهو ينصر من ينصره بعلمه وحكمته ويعد بالنصر من علم أنه ناصره لا محالة فلا يصدر منه شيء إلا عن حكمة .
( ذلك بأن الله هو الحق وأن ما تدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير [ 62 ] ) A E اسم الإشارة هنا تكرير لاسم الإشارة الذي سبقه ولذلك لم يعطف . ثم أخبر عنه بسبب آخر لنصر المؤمنين على المشركين بأن الله هو الرب الحق الذي إذا أراد فعل وقدر فهو ينصر أولياءه وأن ما يدعوه المشركون من دون الله هو الباطل فلا يستطيعون نصرهم ولا أنفسهم ينصرون . وهذا على حمل الباء في قوله ( بأن الله هو الحق ) على معنى السببية وهو محمل المفسرين . وسيأتي في سورة لقمان في نظيرها : أن الأظهر حمل الباء على الملابسة ليلتئم عطف ( وأن ما تدعون من دونه هو الباطل ) .
والحق : المطابق للواقع أي الصدق مأخوذ من حق الشيء إذا ثبت . والمعنى : أنه الحق في الإلهية . فالقصر في هذه الجملة المستفاد من ضمير الفصل قصر حقيقي .
وأما القصر في قوله ( وأن ما تدعون من دونه هو الباطل ) المستفاد من ضمير الفصل فهو قصر ادعائي لعدم الاعتداد بباطل غيرها حتى كأنه ليس من الباطل . وهذا مبالغة في تحقير أصنامهم لأن المقام مقام مناضلة وتوعد وإلا فكثير من أصنام وأوثان غير العرب باطل أيضا .
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ( تدعون ) بالتاء الفوقية على الالتفات إلى خطاب المشركين لأن الكلام السابق الذي جرت عليهم فيه ضمائر الغيبة مقصود منه إسماعهم والتعريض باقتراب الانتصار عليهم . وقرأ البقية بالتحتية على طريقة الكلام السابق .
وعلو الله : مستعار للجلال والكمال التام .
والكبر : مستعار لتمام القدرة أي هو العلي الكبير دون الأصنام التي تعبدونها إذ ليس لها كمال ولا قدرة ببرهان المشاهدة .
( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير [ 63 ] ) انتقال إلى التذكير بنعم الله تعالى على الناس بمناسبة ما جرى من قوله ( ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ) الآية . والمقصود : التعريض بشكر الله على نعمه وأن لا يعبدوا غيره كما دل عليه التذييل عقب تعداد هذه النعم بقوله ( إن الإنسان لكفور ) أي الإنسان المشرك . وفي ذلك كله إدماج الاستدلال على انفراده بالخلق والتدبير فهو الرب الحق المستحق للعبادة . والمناسبة هي ما جرى من أن لله هو الحق وأن ما يدعونه الباطل فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا .
والخطاب لكل من تصلح منه الرؤية لأن المرئي مشهور .
والاستفهام : إنكاري نزلت غفلة كثير من الناس عن الاعتبار بهذه النعمة والاعتداد بها منزلة عدم العلم بها . فأنكر ذلك لعدم على الناس الذين أهملوا الشكر والاعتبار .
وإنما حكي الفعل المستفهم عنه الإنكاري مقترنا بحرف ( لم ) الذي يخلصه إلى المضي وحكي متعلقة بصيغة الماضي في قوله ( أنزل من السماء ماء ) وهو الإنزال بصيغة الماضي كذلك ولم يراع فيهما معنى تجدد ذلك لأن موقع إنكار عدم العلم بذلك هو كونه أمرا متقررا ماضيا لا يدعى جهله .
و ( تصبح ) بمعنى تصير فإن خمسا من أخوات ( كان ) تستعمل بمعنى : صار .
واختير في التعبير عن النبات الذي هو مقتضى الشكر لما فيه من إقامة أقوات الناس والبهائم بذكر لونه الأخضر لأن ذلك اللون ممتع للأبصار فهو أيضا موجب شكر على ما خلق الله من جمال المصنوعات في المرأى كما قال تعالى ( ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ) .
وإنما عبر عن مصير الأرض خضراء بصيغة ( تصبح مخضرة ) مع أن ذلك مفرع على فعل ( أنزل من السماء ماء ) الذي هو بصيغة الماضي لأنه قصد من المضارع استحضار تلك الصورة العجيبة الحسنة ولإفادة بقاء أثر إنزال المطر زمانا بعد زمان كما تقول : أنعم فلان علي فأروح وأغدو شاكرا له