واعلم أن توهم التقرب بتلطيخ دماء القرابين وانتفاع المتقرب إليه بتلك الدماء عقيدة وثنية قديمة فربما كانوا يطرحون ما يتقربون به من لحم وطعام فلا يدعون أحدا يأكله . وكان اليونان يشوون لحوم القرابين على النار حتى تصير رمادا ويتوهمون أن رائحة الشواء تسر الآلهة المتقرب إليها بالقرابين . وكان المصريون يلقون الطعام للتماسيح التي في النيل لأنها مقدسة .
وقرأ الجمهور ( ينال ) و ( يناله ) بتحتية في أولهما . وقرأه يعقوب بفوقية على مراعاة ما يجوز في ضمير جمع غير العاقل وربما كانوا يقذفون بمزع من اللحم على أنها لله فربما أصابها محتاج وربما لم يتفطن لها فتأكلها السباع أو تفسد .
ويشمل التقوى ذكر اسم الله عليها والتصدق ببعضها على المحتاجين .
و ( يناله ) مشاكله ل ( ينال ) الأول استعير النيل لتعلق العلم . شبه علم الله تقواهم بوصول الشيء المبعوث إلى الله تشبيها وجهه الحصول في كل وحسنته المشاكلة .
و ( من ) في قوله ( منكم ) ابتدائية . وهي ترشيح للاستعارة . ولذلك عبر بلفظ ( التقوى منكم ) دون : تقواكم أو التقوى . مجردا مع كون المعدول عنه أوجز لأن في هذا الإطناب زيادة معنى من البلاغة .
( كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين [ 37 ] ) تكرير لجملة ( كذلك سخرناها لكم ) . وليبنى عليه التنبيه إلى أن الثناء على الله مسخرها هو رأس الشكر المنبه عليه في الآية السابقة فصار مدلول الجملتين مترادفا فوقع التأكيد . فالقول في جملة ( كذلك سخرها لكم لتكبروا الله ) كالقول في أشباهها .
وقوله ( على ما هداكم ) ( على ) فيه للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى التمكن . أي لتكبروا الله عند تمكنكم من نحرها . و ( ما ) موصولة . والعائد محذوف مع جاره . والتقدير : على ما هداكم إليه من الأنعام .
والهداية إليها : هي تشريع في تلك المواقيت لينفع بها الناس ويرتزق سكان الحرم الذين اصطفاهم الله ليكونوا دعاة التوحيد لا يفارقون ذلك المكان . والخطاب للمسلمين .
وتغيير الأسلوب تخريج على خلاف مقتضى الظاهر بالإظهار في مقام الإضمار للإشارة إلى أنهم قد اهتدوا وعملوا بالاهتداء فأحسنوا .
( إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور [ 38 ] ) استئناف بياني جوابا لسؤال يخطر في نفوس المؤمنين ينشأ من قوله تعالى ( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله ) الآية فإنه توعد المشركين على صدهم عن سبيل الله والمسجد الحرام بالعذاب الأليم . وبشر المؤمنين المخبتين والمحسنين بما يتبادر منه ضد وعيد المشركين وذلك ثواب الآخرة . وطال الكلام في ذلك بما تبعه لا جرم تشوفت نفوس المؤمنين إلى معرفة عاقبة أمرهم في الدنيا . وهل ينتصر لهم من أعدائهم أو يدخر لهم الخير كله إلى الدار الآخرة . فكان المقام خليقا بأن يطمئن الله نفوسهم بأنه كما أعد لهم نعيم الآخرة هو أيضا مدافع عنهم في الدنيا وناصرهم . وحذف مفعول ( يدافع ) لدلالة المقام .
فالكلام موجه إلى المؤمنين . ولذلك فافتتاحه بحرف التوكيد إما لمجرد تحقيق الخبر وإما لتنزيل غير المتردد لشدة انتظارهم النصر واستبطائهم إياه .
A E والتعبير بالموصول لما فيه من الإيمان إى وجه بناء الخبر وأن دفاع الله عنهم لأجل إيمانهم .
وقرأ الجمهور لفظ ( يدافع ) بألف بعد الدال فيفيد قوة الدفع . وقرأه أبو عمرو وابن كثير ويعقوب ( يدافع ) بدون ألف بعد الدال .
وجملة ( أن الله لا يحب كل خوان كفور ) تعليل الدفاع بكونه عن الذين آمنوا بأن الله لا يجب الكافرين الخائبين فلذلك يدفع عن المؤمنين لرد أذى الكافرين : ففي هذا إيذان بمفعول ( يدافع ) المحذوف أي يدافع الكافرين الخائنين .
والخوان : الشديد الخون . والخون كالخيانة : الغدر بالأمانة . والمراد بالخوان الكافر لأن الكفر خيانة لعهد الله الذي أخذه على المخلوقات بأن يوحدوه فجعله في الفطرة وأبلغه الناس على ألسنة الرسل فنبه بذلك ما أودعهم في فطرتهم