وأما كونها سلاما فهو حقيقة لا محالة وذكر ( سلاما ) بعد ذكر البرد كالاحتراس لأن البرد مؤذ بدوامه ربما إذا اشتد فعقب ذكره بذكر السلام لذلك . وعن ابن عباس : لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها . وإنما ذكر ( بردا ) ثم أتبع ب ( سلاما ) ولم يقتصر على ( بردا ) لإظهار عجيب صنع القدرة إذ صير النار بردا .
و ( على إبراهيم ) يتنازعه ( بردا وسلاما ) . وهو أشد مبالغة في حصول نفعهما له . ويجوز أن يتعلق بفعل الكون .
( وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين [ 70 ] ) تسمية عزمهم على إحراقه كيدا يقتضي أنهم دبروا ذلك خفية منه . ولعل قصدهم من ذلك أن لا يفر من البلد فلا يتم الانتصار لآلهتهم .
والأخسر : مبالغة في الخاسر فهو اسم تفضيل مسلوب المفاضلة .
وتعريف جزأي الجملة يفيد القصر وهو قصر للمبالغة كأن خسارتهم لا تدانيها خسارة وكأنهم انفردوا بوصف الأخسرين فلا يصدق هذا الوصف على غيرهم . والمراد بالخسارة الخيبة . وسميت خيبتهم خسارة على طريقة الاستعارة تشبيها لخيبة قصدهم إحراقه بخيبة التاجر في تجارته كما دل عليه قوله تعالى ( وأرادوا به كيدا ) أي فخابوا خيبة عظيمة . وذلك أن خيبتهم جمع لهم بها سلامة إبراهيم من أثر عقابهم وإن صار ما أعدوه للعقاب معجزة وتأييدا لإبراهيم " عليه السلام " .
A E وأما شدة الخسارة التي اقتضاها اسم التفضيل فهي بما لحقهم عقب ذلك من العذاب إذ سلط الله عليهم عذابا كما دل عليه قوله تعالى في سورة الحج ( فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير ) . وقد عد فيهم قوم إبراهيم ولم أر من فسر ذلك الأخذ بوجه مقبول . والظاهر أن الله سلط عليهم الآشوريين فأخذوا بلادهم وانقرض ملكهم وخلفهم الأشوريون وقد أثبت التاريخ أن العيلاميين من أهل السوس تسلطوا على بلاد الكلدان في حياة إبراهيم في حدود سنة 2286 قبل المسيح .
( ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين [ 71 ] ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين [ 72 ] وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين [ 73 ] ) هذه نجاة ثانية بعد نجاته من ضر النار هي نجاته من الحلول بين قوم عدو له كافرين بربه وربهم وهي نجاة من دار الشرك وفساد الاعتقاد . وتلك بأن سهل الله له المهاجرة من بلاد " الكلدان " إلى أرض " فلسطين " وهي بلاد " كنعان " .
وهجرة إبراهيم هي أول هجرة في الأرض لأجل الدين . واستصحب إبراهيم معه لوطا ابن أخيه ( هاران ) لأنه آمن بما جاء به إبراهيم . وكانت سارة امرأة إبراهيم معهما وقد فهمت معيتها من أن المرء لا يهاجر إلا ومعه امرأته .
وانتصب " لوطا " على المفعول معه لا على المفعول به لأن لوطا لم يكن مهددا من الأعداء لذاته فيتعلق به فعل الإنجاء .
وضمن ( نجيناه ) معنى الإخراج فعدي بحرف ( إلى ) .
والأرض : هي أرض فلسطين . ووصفها الله بأنه باركها للعالمين أي للناس يعني الساكنين بها لأن الله خلقها أرض خصب ورخاء عيش وأرض أمن . وورد في التوراة : أن الله قال لإبراهيم : إنها تفيض لبنا وعسلا .
والبركة : وفرة الخير والنفع . وتقدم في قوله تعالى ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا ) في سورة آل عمران .
وهبة إسحاق له ازدياده له على الكبر وبعد أن يئست زوجه سارة من الولادة .
وهبة يعقوب ازدياد لإسحاق بن إبراهيم في حياة إبراهيم ورؤيته إياه كهلا صالحا .
والنافلة : الزيادة غير الموعودة فإن إبراهيم سأل ربه فقال ( رب هب لي من الصالحين ) أراد الولد فولد له إسماعيل كما في سورة الصافات ثم ولد له إسحاق عن غير مسألة كما في سورة هود فكان نافلة وولد لإسحاق يعقوب فكان أيضا نافلة .
وانتصب ( نافلة ) على الحال التي عاملها ( وهبنا ) فتكون حالا من إسحاق ويعقوب شأن الحال الواردة بعد المفردات أن تعود إلى جميعها .
وتنوين ( كلا ) عوض عن المضاف إليه . والمعنى : وكلهم جعلنا صالحين أي أصلحنا نفوسهم . والمراد إبراهيم وإسحاق ويعقوب لأنهم الذين كان الحديث الأخير عنهم . وأما لوط فإنما ذكر على طريق المعية وسيخص بالذكر بعد هذه الآية