وأما ما روي في الصحيح عن أبي هريرة أن النبي A قال : " لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ثنتين منه في ذات لله " D : قوله ( إني سقيم ) وقوله ( بل فعله كبيرهم هذا ) . وبينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة فقيل له : إن هاهنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه فقال : من هذه ؟ قال : أختي . فأتى سارة فقال : يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك وأن هذا سألني فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني... " . وساق الحديث .
فمعناه أنه كذب في جوابه عن قول قومه ( أأنت فعلت هذا بآلهتنا ) حيث قال ( بل فعله كبيرهم هذا ) لأن ( بل ) إذا جاء بعد استفهام أفاد إبطال المستفهم عنه . فقولهم ( أأنت فعلت هذا ) سؤال عن كونه محطم الأصنام فلما قال ( بل ) فقد نفى ذلك عن نفسه وهو نفي مخالف للواقع ولاعتقاده فهو كذب . غير أن الكذب مذموم ومنهي عنه ويرخص فيه للضرورة مثل ما قاله إبراهيم فهذا الإضراب كان تمهيدا للحجة على نية أن يتضح لهم الحق بأخرة . ولذلك قال ( أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم ) الآية .
A E أما الإخبار بقوله ( فعله كبيرهم هذا ) فليس كذبا وإن كان مخالفا للواقع ولاعتقاد المتكلم لأن الكلام والأخبار إنما تستقر بأواخرها وما يعقبها كالكلام المعقب بشرط أو استثناء فإنه لما قصد تنبيههم على خطأ عبادتهم للأصنام مهد لذلك كلاما هو جار على الفرض والتقدير فكأنه قال : لو كان هذا إلها لما رضي بالاعتداء على شركائه فلما حصل الاعتداء عليهم بمحضر كبيرهم تعين أن يكون هو الفاعل لذلك ثم ارتقى في الاستدلال بأن سلب الإلهية عن جميعهم بقوله ( إن كانوا ينطقون ) كما تقدم . فالمراد من الحديث أنها كذبات في بادئ الأمر وأنها عند التأمل يظهر المقصود منها . وذلك أن النهي عن الكذب إنما علته خدع المخاطب وما يتسبب على الخبر المكذوب من جريان الأعمال على اعتبار الواقع بخلافه . فإذا كان الخبر يعقب بالصدق لم يكن ذلك من الكذب بل كان تعريضا أو مزحا أو نحوهما .
وأما ما ورد في حديث الشفاعة " فيقول إبراهيم : لست هناكم ويذكر كذبات كذبها " فمعناه أنه يذكر أنه قال كلاما خلافا للواقع بدون إذن الله بوحي ولكنه ارتكب قول خلاف الواقع لضرورة الاستدلال بحسب اجتهاده فخشي أن لا يصادف اجتهاده الصواب من مراد الله فخشي عتاب الله فتخلص من ذلك الموقف .
وقوله تعالى ( فرجعوا إلى أنفسهم ) يجوز أن يكون معناه فرجع بعضهم إلى بعض أي أقبل بعضهم على خطاب بعض وأعرضوا عن مخاطبة إبراهيم على نحو قوله تعالى ( فسلموا على أنفسكم ) وقوله تعالى ( ولا تقتلوا أنفسكم ) أي فقال بعضهم لبعض إنكم أنتم الظالمون .
وضمائر الجمع مراد منها التوزيع كما في : ركب القوم دوابهم ويجوز أن يكون معناه فرجع كل واحد إلى نفسه أي ترك التأمل في تهمة إبراهيم وتدبر في دفاع إبراهيم . فلاح لكل منهم أن إبراهيم بريء فقال بعضهم لبعض ( إنكم أنتم الظالمون ) . وضمائر الجمع جارية على أصلها المعروف . والجملة مفيدة للحصر أي أنتم ظالمون لا إبراهيم لأنكم ألصقتم به التهمة بأنه ظلم أصنامنا مع أن الظاهر أن نسألها عمن فعل بها ذلك ويظهر أن الفاعل هو كبيرهم .
والرجوع إلى أنفسهم على الاحتمالين السابقين مستعار لشغل البال بشيء عقب شغله بالغير كما يرجع المرء إلى بيته بعد خروجه إلى مكان غيره .
وفعل ( نكسوا ) مبني للمجهول أي نكسهم ناكس . ولما لم يكن لذلك النكس فاعل إلا أنفسهم بني الفعل للمجهول فصار بمعنى : انتكسوا على رؤوسهم . وهذا تمثيل .
والنكس : قلب أعلى الشيء أسفله وأسفله أعلاه يقال : صلب اللص منكوسا أي مجعولا رأسه مباشرا للأرض وهو أقبح هيئات المصلوب . ولما كان شأن انتصاب جسم الإنسان أن يكون منتصبا على قدميه فإذا نكس صار انتصابه كأنه على رأسه فكان قوله هنا ( نكسوا على رؤوسهم ) تمثيلا لتغير رأيهم عن الصواب كما قالوا ( إنكم أنتم الظالمون ) إلى معاودة الضلال بهيئة من تغيرت أحوالهم من الانتصاب على الأرجل إلى الانتصاب على الرؤوس منكوسين . فهو من تمثيل المعقول بالمحسوس والمقصود به التشنيع . وحرف ( على ) للاستعلاء أي علت أجسادهم فوق رؤوسهم بأن انكبوا انكبابا شديدا بحيث لا تبدو رؤوسهم . وتحتمل الآية وجوها أخرى أشار إليها في الكشاف