ويجوز أن يكون المعنى أن فرعون أراد التشغيب على موسى حين نهضت حجته بأن ينقله إلى الحديث عن حال القرون الأولى : هل هم في عذاب بمناسبة قول موسى ( أن العذاب على من كذب وتولى ) فإذا قال : إنهم في عذاب ثارت ثائرة أبنائهم فصاروا أعداء لموسى وإذا قال : هم في سلام نهضت حجة فرعون لأنه متابع لدينهم . ولأن موسى لما أعلمه بربه وكان ذلك مشعرا بالخلق الأول خطر ببال فرعون أن يسأله عن الاعتقاد في مصير الناس بعد الفناء فسأل : ما بال القرون الأولى ؟ وما شأنهم وما الخبر عنهم ؟ وهو سؤال تعجيز وتشغيب .
وقول موسى في جوابه ( علمها عند ربي في كتاب ) صالح للاحتمالين فعلى الاحتمال الأول يكون موسى صرفه عن الخوض فيما لا يجدي في مقامه ذلك الذي هو المتمحض لدعوة الأحياء لا البحث عن الأموات الذين أفضوا إلى عالم الجزاء . وهذا نظير قول النبي A لما سئل عن ذراري المشركين فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " .
وعلى الاحتمال الثاني يكون موسى قد عدل عن ذكر حالهم خيبة لمراد فرعون وعدولا عن الاشتغال بغير الغرض الذي جاء لأجله .
والحاصل أن موسى تجنب التصدي للمجادلة والمناقضة في غير ما جاء لأجله لأنه لم يبعث بذلك . وفي هذا الإعراض فوائد كثيرة وهو عالم بمجمل أحوال القرون الأولى وغير عالم بتفاصيل أحوالهم وأحوال أشخاصهم .
وإضافة ( علمها ) من إضافة المصدر إلى مفعوله . وضمير ( علمها ) عائد إلى " القرون الأولى " لأن لفظ الجمع يجوز أن يؤنث ضميره .
وقوله ( في كتاب ) يحتمل أن يكون الكتاب مجازا في تفصيل العلم تشبيها له بالأمور المكتوبة وأن يكون كناية عن تحقيق العلم لأن الأشياء المكتوبة تكون محققة كقول الحارث بن حلزة : .
" وهل ينقض ما في المهارق الأهواء ويؤكد هذا المعنى قوله ( لا يضل ربي ولا ينسى ) والضلال : الخطأ في العلم شبه بخطأ الطريق . والنسيان : عدم تذكر الأمر المعلوم في ذهن العالم .
( الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى [ 53 ] كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى [ 54 ] ) هذه جمل ثلاث معترضة في أثناء قصة موسى .
فالجملة الأولى منها مستأنفة ابتدائية على عادة القرآن من تفنن لأغراض لتجديد نشاط الأذهان . ولا يحتمل أن تكون من كلام موسى إذ لا يناسب ذلك تفريع قوله ( فأخرجنا به أزواجا ) . فقوله ( الذي جعل لكم الأرض مهادا ) خبر لمبتدأ محذوف أي هو الذي جعل لكم الأرض مهادا والضمير عائد إلى الرب المفهوم من ( ربي ) أي هو رب موسى .
وتعريف جزأي الجملة يفيد الحصر أي الجاعل الأرض مهادا فكيف تعبدون غيره . وهذا قصر حقيقي غير مقصود به الرد على المشركين ولكنه تذكير بالنعمة وتعريض بأن غيره ليس حقيقا بالإلهية .
وقرأ الجمهور ( مهادا ) " بكسر الميم " وهو اسم بمعنى الممهود مثل الفراش واللباس . ويجوز أن يكون جمع مهد وهو اسم لما يمهد للصبي أي يوضع عليه ويحمل فيه فيكون بوزن كعاب جمعا لكعب . ومعنى الجمع على اعتبار كثرة البقاع .
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف ( مهدا ) " بفتح الميم وسكون الهاء " أي كالمهد الذي يمهد للصبي وهو اسم بمصدر مهده على أن المصدر بمعنى المفعول كالخلق بمعنى المخلوق ثم شاع ذلك فصار اسما لما يمهد .
ومعنى القراءتين واحد أي جعل الأرض ممهوه مسهلة للسير والجلوس والاضطجاع بحيث لا نتوء فيها ألا نادرا يمكن تجنبه كقوله ( والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا ) A E