بني فعل النداء للمجهول زيادة في التشويق إلى استطلاع القصة فإبهام المنادي يشوق سامع الآية إلى معرفته فإذا فاجأه ( إني أنا ربك ) علم أن المنادي هو الله تعالى فتمكن في النفس كمال التمكن . ولأنه أدخل في تصوير تلك الحالة بأن موسى ناداه مناد غير معلوم له فحكي نداؤه بالفعل المبني للمجهول .
وجملة ( إني أنا ربك ) بيان لجملة ( نودي ) . وبهذا النداء علم موسى أن الكلام موجه إليه من قبل الله تعالى لأنه كلام غير معتاد والله تعالى لا يغير العوائد التي قررها في الأكوان إلا لإرادة الإعلام بأن له عناية خاصة بالمغير فالله تعالى خلق أصواتا خلقا غير معتاد غير صادرة عن شخص مشاهد ولا موجهة له بواسطة ملك يتولى هو تبليغ الكلام لأن قوله ( إني أنا ربك ) ظاهر في أنه لم يبلغ إليه ذلك بواسطة الملائكة فلذلك قال الله تعالى ( وكلم الله موسى تكليما ) إذ علم موسى أن تلك الأصوات دالة على مراد الله تعالى . والمراد التي تدل عليه تلك الأصوات الخارقة للعادة هو ما نسميه بالكلام النفسي . وليس الكلام النفسي هو الذي سمعه موسى لأن الكلام النفسي صفة قائمة بذات الله تعالى منزه عن الحروف والأصوات والتعلق بالأسماع .
والإخبار عن ضمير المتكلم بأنه رب المخاطب لتسكين روعة نفسه من خطاب لا يرى مخاطبة فإن شأن الرب الرفق بالمربوب .
وتأكيد الخبر بحرف ( إن ) لتحقيقه لأجل غرابته دفعا لتطرق الشك عن موسى في مصدر هذا الكلام .
وقرأ أبو عمرو وابن كثير ( أني ) بفتح الهمزة على حذف باء الجر . والتقدير : نودي بأني أنا ربك . والتأكيد حاصل على كلتا القراءتين .
وتفريع الأمر بخلع النعلين على الإعلام بأنه ربه إشارة إلى أن ذلك المكان قد حله التقديس بإيجاد كلام من عند الله فيه .
والخلع : فصل شيء عن شيء كان متصلا به .
والنعلان : جلدان غلظان يجعلان تحت الرجل ويشدان برباط من جلد لوقاية الرجل ألم المشي على التراب والحصى وكانت النعل تجعل على مثال الرجل .
وإنما أمره الله بخلع نعليه تعظيما منه لذلك المكان الذي سيسمع فيه الكلام الإلهي . وروى الترمذي عن ابن مسعود عن النبي A قال : " كانت نعلاه من جلد حمار ميت " . أقول : وفيه أيضا زيادة خشوع . وقد اقتضى كلا المعنيين قوله تعالى ( إنك بالواد المقدس ) . فحرف التوكيد مفيد هنا التعليل كما هو شأنه في كل مقام لا يقتضي التأكيد . وهذه خصوصية من جهات فلا يؤخذ منها حكم يقتضي نزع النعل عند الصلاة .
والواد : المفرج بين الجبال والتلال . وأصله بياء في آخره . وكثر تخفيفه بحذف الياء كما في هذه الآية فإذا ثني لزمته الياء يقال : واديان ولا يقال وادان وكذلك إذا أضيف يقال : بواديك ولا يقال بوادك .
والمقدس : المطهر المنزه . وتقدم في قوله تعالى ( ونقدس لك ) في أول البقرة . وتقديس الأمكنة يكون بما يحل فيها من الأمور المعظمة وهو هنا حلول الكلام الموجه من قبل الله تعالى .
A E واختلف المفسرون في معنى ( طوى ) وهو " بضم الطاء وبكسرها " ولم يقرأ في المشهور إلا " بضم الطاء " فقيل : اسم لذلك المكان وقيل : هو اسم مصدر مثل هدى وصف بالمصدر بمعنى اسم المفعول أي طواه موسى بالسير في تلك الليلة كأنه قيل له : إنك بالواد المقدس الذي طويته سيرا فيكون المعنى تعيين أنه هو ذلك الواد . وأحسن منه على هذا الوجه أن يقال هو أمر لموسى بأن يطوي الوادي ويصعد إلى أعلاه لتلقي الوحي . وقد قيل : إن موسى صعد أعلى الوادي . وقيل : هو بمعنى المقدس تقديسين لأن الطي هو جعل الثوب على شقين . ويجيء على هذا الوجه أن تجعل التثنية كناية عن التكرير والتضعيف مثل ( ثم ارجع البصر كرتين ) . فالمعنى : المقدس تقديسا شديدا . فاسم المصدر مفعول مطلق مبين للعدد أي المقدس تقديسا مضاعفا .
والظاهر عندي : أن ( طوى ) اسم لصنف من الأدوية يكون ضيقا بمنزلة الثوب المطوي أو غائرا كالبئر المطوية والبئر تسمى طويا . وسمي واد بظاهر مكة " ذا طوى " بتثليث الطاء وهو مكان يسن للحاج أو المعتمر القادم إلى مكة أن يغتسل عنده .
وقد اختلف في ( طوى ) هل ينصرف أو يمنع من الصرف بناء على أنه اسم أعجمي أو لأنه معدول عن طاو مثل عمر عن عامر .
وقرأ الجمهور " طوى " بلا تنوين على منعه من الصرف