وزاد على الإعلان باعتزال أصنامهم الإعلان بأنه يدعوا الله احتراسا من أن يحسبوا أنه نوى مجرد اعتزال عبادة أصنامهم فربما اقتنعوا بإمساكه عنهم ولذا بين لهم أته بعكس ذلك يدعوا الله الذي لا يعبدونه .
وعبر عن الله بوصف الربوبية المضاف إلى ضمير نفسه للإشارة إلى انفراده من بينهم بعبادة الله تعالى فهو ربه وحده من بينهم فالإضافة هنا تفيد معنى القصر الإضافي مع ما تتضمنه الإضافة من الاعتزاز بربوبية الله إياه والتشريف لنفسه بذلك .
A E وجملة ( عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا ) في موضع الحال من ضمير ( وادعوا ) أي راجا أن لا أكون بدعاء ربي شقيا . وتقدم معناه عند قوله تعالى ( ولم أكن بدعائك رب شقيا ) في هذه السورة . وفي إعلانه هذا الرجاء بين ظهرانيهم تعريض بأنهم أشقياء بدعاء آلهتهم .
( فلما اعتزلهم وما يعبدن من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا [ 49 ] و وهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا [ 50 ] ) طوي ذكر اعتزاله إياهم بعد أن ذكر عزمه عليه إيجازا في الكلام للعلم بأن مثله لا يعزم أمرا إلا نفذ عزمه والاكتفاء بذكر ما ترتب عليه من جعل عزمه حدثا واقعا قد حصل جزاءه عليه من ربه فلأنه لما اعتزل أباه وقومه واستوحش بذلك الفراق وهبه لله ذرية يأنس لهم إذ وهبه إسحاق ابنه ويعقوب ابن ابنه وجعلهما نبيين . وحسبك بهذا مكرمة له عند ربه .
وليس مجازاة الله إبراهيم مقصورة على أن وهبه إسحاق ويعقوب إذ ليس في الكلام ما يقتضي الانحصار فإنه قد وهبه إسماعيل أيضا وظهرت موهبته إياه قبل ظهور موهبة إسحق وكل ذلك بعد أن اعتزل قومه .
وإنما اقتصر على ذكر إسحاق ويعقوب دون ذكر إسماعيل فلم يقل : وهبنا له إسماعيل وإسحاق ويعقوب لأن إبراهيم لما اعتزل قومه خرج بزوجه سارة قريبته فهي قد اعتزلت قومها أيضا إرضاء لربها ولزوجها فذكر الله الموهبة الشاملة لإبراهيم ولزوجه وهي أن وهب لهما إسحاق وبعده يعقوب ولأن هذه الموهبة لما كانت كفاء لإبراهيم على مفارقته أباه وقومه كانت موهبة من يعاشر إبراهيم ويؤنسه وهما إسحاق ويعقوب . أما إسماعيل فقد أراد الله أن يكون بعيدا عن إبراهيم في مكة ليكون جار بيت الله . وإنه لجوار أعظم من جوار إسحاق ويعقوب أباهما .
وقد خص إسماعيل بالذكر استقلالا عقب ذلك ومثله قوله تعالى ( واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب ) ثم قال ( واذكر إسماعيل ) في سورة ص وقد قال في آية الصافات ( وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم ) إلى أن قال ( وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين ) فذكر هنالك إسماعيل عقب قوله ( إني ذاهب إلى ربي سيهدين ) إذ هو المراد بالغلام الحليم .
والمراد بالهبة هنا : تقدير ما في الأزل عند الله لأن ازدياد إسحاق ويعقوب كان بعد خروج إبراهيم بمدة بعد أن سكن أرض كنعان وبعد أن اجتاز بمصر ورجع منها . وكذلك ازدياد إسماعيل كان بعد خروجه بمدة وبعد أن اجتاز بمصر كما وردفي الحديث وفي التوراة أو أريد حكاية هبة إسحاق ويعقوب فيما مضى بالنسبة إلى زمن نزول القران تنبيها بأن ذلك جزاؤه على إخلاصه .
والنكتة في ذكر يعقوب أن إبراهيم رآه حفيدا وسر به فقد ولد يعقوب قبل موت إبراهيم بخمس عشر سنة وأن من يعقوب نشأت أمة عظيمة .
وحرف ( لما ) حرف وجود لوجود أي يقتضي وجود جوابه لأجل وجود شرطها وفد تكون بينهما فترة فتدل على مجرد الجزائية أي التعليل دون توقيت وذلك كما هنا .
وضمير ( لهم ) عائد إلى إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام و ( من ) في قوله ( ومن ذريتهما محسن ) إما حرف تبعيض صفة لمحذوف دل عليه ( وهبنا ) أي موهوبا من رحمتنا .
وإما اسم بمعنى بعض بتأويل كما تقدم عند قوله تعالى ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ) في سورة البقرة . وإن كان النحاة لم يثبتوا لكلمة ( من ) استعمالها اسما كما أثبتوا ذلك لكلمات " الكاف " و " عن " و " على " لكن بعض موارد الاستعمال تقتضيه كما قاله التفتزاني في حاشية الكشاف وأقره عبد الحكيم . وعلى هذا تكون ( من ) في موضع نصب على المفعول به لفعل ( وهبنا ) أي وهبنا لهم بعض رحمتنا وهي النبوءة لأنها رحمة لهم ولمن أرسلوا إليهم