ولما كانت إشارتها بمنزلة مراجعة كلام حكي حوارهم الواقع عقب الإشارة بجملة القول مفصولة غير معطوفة .
والاستفهام : إنكار ؛ أنكروا أن يكلموا من ليس من شأنه أن يتكلم وأنكروا أن تحيلهم على مكالمته أي كيف نترقب منه الجواب أو كيف نلقي عليه السؤال لأن الحالتين تقتضيان التكلم .
A E وزيادة فعل الكون في ( من كان في المهد ) للدلالة على تمكن المظروفية في المهد من هذا الذي أحيلوا علة مكالمته وذلك مبالغة منهم في الإنكار وتعجب من استخفافها بهم . ففعل ( كان ) زائد للتوكيد ولذلك جاء بصيغة المضي لأن ( كان ) الزائدة تكون بصيغة الماضي غالبا .
وقوله ( في المهد ) خبر ( من ) الموصولة .
و ( صبيا ) حال من اسم الموصول .
والمهد : فراش الصبي وما يمهد لوضعه .
( قال إني عبد الله آتاني الكتب وجعلني نبيا [ 30 ] وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصني بالصلوة والزكوة ما دمت حيا [ 31 ] وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا [ 32 ] والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا [ 33 ] ) كلام عيسى هذا مما أهملته أناجيل النصارى لأنهم طووا خبر وصولها إلى أهلها عد وضعها وهو طي يتعجب منه . ويدل على أنها كتبت في أحوال غير مضبوطة فأطلع الله تعالى عليه نبيه A .
والابتداء بوصف العبودية لله ألقاه الله على لسان عيسى لأن الله علم بأن قوما سيقولون : إنه ابن الله .
والتعبير عن إيتاء الكتاب بفعل المضي مراد به أن الله قدر إيتاءه إياه أي قدر أن يؤتيني الكتاب .
والكتاب : الشريعة التي من شأنها أن تكتب لئلا يقع فيها تغيير . فإطلاق الكتاب على شريعة عيسى كإطلاق الكتاب على القرآن . والمراد بالكتاب الإنجيل وهو ما كتب من الوحي الذي خاط الله به عيسى . ويجوز أن يراد الكتاب التوراة فيكون الإيتاء إيتاء علم ما في التوراة كقوله تعالى ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة ) . فيكون قوله ( وجعلني نبيا ) ارتقاء في المراتب التي " أتاه الله إياها " .
والقول في التعبير عنه بالماضي كالقول في قوله و ( آتاني الكتاب ) .
والمبارك : الذي تقارن البركة أحواله في أعماله ومحاورته ونحو ذلك لأن المبارك اسم مفعول من باركه إذا جعله ذا بركة . أو من بارك فيه إذا جعل البركة معه .
والبركة : الخير واليمن .
ذلك أن الله أرسله برحمة لنبي إسرائيل ليحل لهم بعض الذي حرم عليهم وليدعوهم إلى مكارم الأخلاق بعد أن قست قلوبهم وغيروا من دينهم فهذه أعظم بركة تقارنه . ومن بركته أن جعل الله حلوله في المكان سببا لخير أهل تلك البقعة من خصبها واهتداء أهلها وتوفيقهم إلى الخير . ولذلك كان إذا لقيه الجهلة والقساة والمفسدون انقلبوا صالحين وانفتحت قلوبهم للإيمان والحكمة . ولذلك ترى أكثر الحواريين كانوا من عامة الأميين من صيادين وعشارين فصاروا دعاة هدى وفاضت ألسنتهم بالحكمة .
وبهذا يظهر أن كونه مباركا أعم من كونه نبيا عموما وجهيا فلم يكن في قوله ( وجعلني نبيا ) غنية عن قوله ( وجعلني مباركا ) .
والتعميم الذي في قوله ( أينما كنت ) تعميم للأمكنة أي لا تقتصر بركته على كونه في الهيكل بالمقدس أو في مجمع أهل بلده بل هو حيثما حل تحل معه البركة .
والوصاية : الأمر المؤكد بعمل مستقبل أي قدر وصيتي بالصلاة والزكاة أي أن يأمرني بهما أمرا مؤكدا مستمرا فاستعمال صيغة المضي في ( أوصاني ) مثل استعمالها في قوله ( آتاني الكتاب ) .
والزكاة : الصدقة . والمراد : أن يصلي ويزكي . وهذا أمر خاص به كما أمر نبينا A بقيام الليل وقرينة الخصوص قوله ( ما دمت حيا ) لدلالته على استغراق مدة حياته بإيقاع الصلاة والصدقة أي أن يصلي ويتصدق في أوقات التمكن من ذلك أي غير أوقات الدعوة أو الضرورات .
فالاستغراق المستفاد من قوله ( ما دمت حيا ) استغراق عرفي مراد به الكثرة ؛ وليس المراد الصلاة والصدقة المفروضتين على أمته لأن سياق الكلام في أوصاف تميز بها عيسى عليه السلام ولأنه لم يأت بشرع صلاة زائدة على ما شرع في التوراة