استئناف ثان انتقل به من التنويه بسعة علم الله تعالى وأنه لا يعجزه أن يوحي إلى رسوله بعلم كل ما يسأل عن الإخبار به . إلى إعلامهم بأن الرسول لم يبعث للإخبار عن الحوادث الماضية والقرون الخالية . ولا أن من مقتضى الرسالة أن يحيط علم الرسول بالأشياء فيتصدى للإجابة عن أسئلة تلقى إليه ولكنه بشر علمه كعلم البشر أوحى إليه بما شاء إبلاغه عباده من التوحيد والشريعة . ولا علم له إلا ما علمه ربه كما قال تعالى ( قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي ) .
فالحصر في قوله ( إنما أنا بشر مثلكم ) قصر الموصوف على الصفة وهو إضافي للقلب . أي ما أنا إلا بشر لا أتجاوز البشرية إلى العلم بالمغيبات .
A E وأدمج في هذا أهم ما يوحى إليه وما بعث لأجله وهو توحيد الله والسعي لما فيه السلامة عند لقاء الله تعالى . وهذا من رد العجز على الصدر من قوله في أول السورة ( لينذر بأسا شديدا من لدنه ) إلى قوله ( إن يقولون إلا كذبا ) .
وجملة ( يوحى إلي ) مستأنفة . أو صفة ثانية ل ( بشر ) .
و ( أنما ) مفتوحة الهمزة أخت " إنما " المكسورة الهمزة وهي مركبة من ( أن ) المفتوحة الهمزة و ( ما ) الكافة كما ركبت " إنما " المكسورة الهمزة فتفيد ما تفيده ( أن ) المفتوحة من المصدرية وما تفيده " إنما " من الحصر والحصر المستفاد منها هنا قصر إضافي للقلب .
والمعنى : يوحي الله إلي توحيد الإله وانحصار وصفه في صفة الوحدانية دون المشاركة .
وتفريع ( فمن كان يرجو لقاء ربه ) هو من جملة الموحى به إليه . أي يوحى إلي بوحدانية الإله وبإثبات البعث وبالأعمال الصالحة .
فجاء النظم بطريقة بديعة في إفادة الأصول الثلاثة إذ جعل التوحيد أصلا لها وفرع عليه الأصلان الآخران وأكد الإخبار بالوحدانية بالنهي عن الإشراك بعبادة الله تعالى . وحصل مع ذلك رد العجز على الصدر وهو أسلوب بديع .
بسم الله الرحمن الرحيم .
سورة مريم .
اسم هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير وأكثر كتب السنة سورة مريم . ورويت هذه التسمية عن النبي A في حديث رواه الطبراني والديلمي وابن منده وأبو نعيم وأبو أحمد الحاكم : عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني عن أبيه عن جده أبي مريم قال : " أتيت النبي A فقلت : يا رسول الله إنه ولدت لي الليلة جارية فقال : والليلة أنزلت علي سورة مريم فسمها مريم " . فكان يكنى أبا مريم واشتهر بكنيته . واسمه نذير ويظهر أنه أنصاري .
وابن عباس سماها سورة كهيعص وكذلك وقعت تسميتها في صحيح البخاري في كتاب التفسير في أكثر النسخ وأصحها . ولم يعدها جلال الدين في الإتقان في عداد السور المسماة باسمين ولعله لم ير الثاني اسما .
وهي مكية عند الجمهور . وعن مقاتل : أن آية السجدة مدنية . ولا يستقيم هذا القول لاتصال تلك الآية بالآيات قبلها إلا أن تكون ألحقت بها في النزول وهو بعيد .
وذكر السيوطي في الإتقان قولا بأن قوله تعالى ( وإن منكم إلا واردها ) الآية مدني ولم يعزه لقائل .
وهي السورة الرابعة والأربعون في ترتيب النزول ؛ نزلت بعد سورة فاطر وقبل سورة طه . وكان نزول سورة طه قبل إسلام عمر بن الخطاب كما يؤخذ من قصة إسلامه فيكون نزول هذه السورة أثناء سنة أربع من البعثة مع أن السورة مكية وليس أبو مريم هذا معدودا في المسلمين الأولين فلا أحسب الحديث المروي عنه مقبولا .
ووجه التسمية أنها بسطت فيها قصة مريم وابنها وأهلها قبل أن تفصل في غيرها . ولا يشبهها في ذلك إلا سورة آل عمران التي نزلت في المدينة .
وعدت آياتها في عدد أهل المدينة ومكة تسعا وتسعين . وفي عدد أهل الشام والكوفة ثمانا وتسعين .
أغراض السورة .
ويظهر أن هذه السورة نزلت للرد على اليهود فيما اقترفوه من القول الشنيع في مريم وابنها فكان فيها بيان نزاهة آل عمران وقداستهم في الخير .
" وهل يثبت الخطي إلا وشيجه ثم التنويه بجمع من الأنبياء والمرسلين من أسلاف هؤلاء وقرابتهم . والإنحاء على بعض خلفهم من ذرياتهم الذين لم يكونوا على سننهم في الخير من أهل الكتاب والمشركين وأتوا بفاحش من القول إذ نسبوا لله ولدا وأنكر المشركون منهم البعث وأثبت النصارى ولدا لله تعالى